كتابات اخبار و مقابلات الكتب الافتتاحيات الصفحة الرئيسية
    English version  
       

للتواصل الافلام الصور السيرة رئيس تحرير مجلة البيئة والتنمية
امين عام المنتدى العربي للبيئة والتنمية
الافتتاحيات

البيئة العربية في 10 سنين
وضع البيئة في العالم العربي تراجع في جوانب كثيرة، لكنه أحرز تقدماً على بعض الجبهات. هذا هو الاستنتاج الرئيسي الذي توصل إليه التقرير الجديد للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) وعنوانه "البيئة العربية في عشر سنين". وهذا التقرير هو العاشر في السلسلة السنوية عن وضع البيئة العربية، التي أطلقها "أفد" عام 2008.
المفكرة البيئية
البيئة في وسائل الاعلام العربي
بعد فيضانات الربيع العربية: تغيُّر المناخ لا يبرّر الأخطاء

نجيب صعب، أيار 2024

هل يكون ما حصل من فيضانات وأعاصير ربيعية في بعض البلدان العربية تذكيراً بجبروت الطبيعة وضرورة احترام قواعدها؟ برَز هذا التساؤل عقب العواصف المطرية التي ضربت أخيراً دولاً في الخليج وحصدت ضحايا، إلى جانب الأضرار الهائلة في البنى التحتية. وكان الطوفان قد بدأ بعد يومين من مقال لي بعنوان "معاندة الطبيعة لن تنقذ البيئة"، اعتبره بعضهم تشكيكاً في برامج التنمية. لكن بينما أشار المقال بوضوح إلى أن الطموح للتغيير والتطوير والتقدُّم مشروع، وأن احترام الطبيعة لا يعني الخضوع لها، فقد حذَّر من استسهال إخضاع الطبيعة والتلاعب بقوانينها.

ضخامة الكارثة والخسائر الكبرى التي تسببت بها أحرجت المشككين بحقائق تغيُّر المناخ. وفي حين استخدم البعض التغيُّر المناخي حجّة للتملُّص من المسؤولية، استفاد مسؤولون أصحاب رؤية مستقبلية من التجربة لإطلاق برامج تؤهّل البنى التحتية والأبنية لمواجهة تقلّبات متطرفة في أحوال الطقس، يشهدها العالم كله. الفارق الوحيد أن ما كان يحصل في السابق كل خمسين سنة يتكرر اليوم بوتيرة أسرع بسبب التغيُّر المناخي. ولم يتوقف هجوم المياه عند فيضانات الإمارات وعُمان، إذ غطَّت الأمطار الغزيرة مناطق شاسعة في دول خليجية أخرى، ولم توفّر بلدان المشرق والمغرب. وهي وصلت إلى لبنان، الذي تحوَّلت طرقاته إلى بحيرات، بينما سكانه يعانون العطش، والبحيرات الاصطناعية التي أُنشئت في مواقع غير ملائمة تعاني الجفاف لتسرُّب مياهها عبر شقوق طبيعية إلى باطن الأرض. ولم تكُن هذه أحداثاً منعزلة، إذ ضربت الأمطار العاتية خلال الشهور الأخيرة دولاً عدة حول العالم، آخرها حصدت مئات الضحايا في كينيا.

وكانت مقالات سابقة حذّرت من أن تحويل الغيوم مرايا تعكس أشعة الشمس، والاستمطار الاصطناعي، ورشّ الثلج الاصطناعي على حلبات التزلّج، وامتصاص الكربون من الجو، قد تكون حلاّ مؤقتاً لتمديد استمرار النشاطات البشرية المعتادة فترة إضافية. لكنها جميعاً تبقى مجرّد شراء للوقت، إذ لن يوقف الكارثة سوى تدابير جذرية تضع حداً للانبعاثات المسببة لتغيُّر المناخ واستنزاف الموارد والتلوّث. وهنا يجدر ألا ننسى أن التأخير المتواصل في تحقيق الالتزامات الكفيلة بالحد من زيادة معدلات الحرارة فوق 1.5 درجة هو ما استدعى البحث عن علاج وقتي تمثَّل في التدخل البشري لتعديل الأنظمة المناخية. لكن هذا لا يغني عن خفض الانبعاثات والاستعداد الجدي للتعامل مع الآثار التي لن يمكن وقفها.

لم تثبت علمياً هذه المرة علاقة الاستمطار الاصطناعي، القائم على رشّ مواد كيماوية في الغيوم، بالعواصف المطرية التي ضربت الخليج، وكانت آثارها أشّد وطأة في عُمان والإمارات. فقد أكد العلم أن هذه تقلُّبات في الطقس، زاد من حدّتها التغيُّر المناخي الذي يضرب العالم كله. ومنذ أكثر من خمسين عاماً، حذّر العلماء من أن التغيُّر المناخي سيتسبب بظواهر متطرفة وحادة، قد تكون على طرفي نقيض: من سيول جارفة مفاجئة في مكان ما، وجفاف في أماكن أخرى، حيث لم يكن حدوثها متوقعاً وفق السياقين التاريخي والجغرافي.

الدروس المستفادة مما حصل كثيرة، من أهمها أن التغيُّر المناخي حقيقة راهنة، وهو مشكلة للحاضر وليس خيالاً علمياً للمستقبل. والذين كانوا يعتبرون الحديث عن تحديات المناخ مؤامرة ضد الدول النامية لمنعها من تحقيق تنمية سريعة، ثبت أنهم كانوا على خطأ، عدا عن أن هذه الدول هي الأكثر تأثراً بنتائج تغيُّرات المناخ. أما الدرس الثاني فهو أنّ من الضروري أن نكون مستعدين لمواجهة آثار التغيُّرات المناخية التي لن يمكن وقفها، خاصة بإحداث تعديلات في البنى التحتية، من شبكات طرقات وصرف صحي ومياه وكهرباء، إلى جانب وضع قيود على استخدامات الأراضي والبناء، لمواجهة المتغيّرات. والدرس الثالث والأهم هو الحيطة، بحيث نتجنب كل ما يعرقل توازن الطبيعة، إذ لا يمكن التحكم بالنتائج والتأثيرات إلى ما لا نهاية. فاستمرار تحدي الأنظمة الطبيعية قد يؤدي إلى خروجها عن السيطرة في أي لحظة، نتيجة خطأ أو سوء تقدير.

أما تهليل بعضهم لزيادة الأمطار في مناطق جافة بسبب التغيُّر المناخي، كظاهرة مفيدة لبعض البلدان، وصولاً إلى التبشير بتحوُّلها إلى "مروج خضراء"، فهو خطأ كبير يجافي الحقيقة. الواقع أن العواصف المطرية العنيفة المفاجئة والعرضية لا تفيد الزراعة بل تدمّرها، والمطلوب نظام مناخي متوازن ومستقر. لذا على المسؤولين أخذ تغيُّر المناخ على محمل الجد، بدل الاكتفاء باستخدامه انتقائياً لتغطية أخطاء في بعض السياسات والبرامج.

الكوارث الطبيعية بسبب أحوال الطقس المتطرفة تحصل دورياً، مع تغيُّر المناخ ومن دونه، ويجب أن نكون مستعدين للمواجهة. فمن غير الجائز، مثلاً، سد المجاري الطبيعية للسيول، التي تكونت عبر آلاف السنين، بإنشاء طرقات وأبنية فوقها، كما يحصل في حالات كثيرة. فالطبيعة أوجدت هذه المجاري للتعامل مع السيول الجارفة التي أتت في السابق، ولو قبل مئة سنة. والمشكلة الأخرى أن المساحات الشاسعة، المغطّاة بالأسمنت والأسفلت في المدن، تمنع تسرب الأمطار إلى باطن الأرض عند هطولها بغزارة، ما يؤدي إلى فيضان شبكات الصرف غير المعدّة أساساً لحالات الطوارئ. ولم تمنع فخامة الأبنية فوق أراضي المدن تسرُّب مياه المجارير الملوَّثة الفائضة إلى خزانات المياه تحتها، ما أدى إلى انتشار الأمراض بين السكان.

التدخُّل البشري لتعديل الأنظمة الطبيعية قد يتسبب بعواقب لا يمكن التكهن بها أو التحكم في نتائجها. ويبقى الخيار الوحيد المستدام تعديل أنماط الاستهلاك، وإدارة الموارد الطبيعية بحكمة، واحترام حدود الطبيعة بدلاً من تحدّيها. فتخضير الأراضي الصحراوية القاحلة جيّد، لكن ضمن شروط تُوازن بين فوائده وأثره على إمدادات المياه. وتحلية مياه البحر تسد بعض العجز في المياه العذبة، لكن ضمن حدود تمنع الإخلال بالطبيعة. والتوسُّع في التطوير العمراني في المدن طُموحٌ مشروع، شرط أن يحترم القدرة الاستيعابية للأنظمة الطبيعية ويحافظ على استدامة الموارد وتجدُّدها. والأهم أن يتلازم إنشاء البنى التحتية الملائمة مع "البنى الفوقية" التي تناطح السحاب.

هذه بعض الشروط التي يجب الالتزام بها عندما تضع الحكومات برامج التنمية. كما على المسؤولين القيام بواجباتهم الأساسية، بدلاً من التحجج بالتغيُّر المناخي وتذكُّره فقط عندما يكون ذلك ملائماً.

 

عودة
افلام الصور اخبار و مقابلات