كتابات اخبار و مقابلات الكتب الافتتاحيات الصفحة الرئيسية
    English version  
       

للتواصل الافلام الصور السيرة رئيس تحرير مجلة البيئة والتنمية
امين عام المنتدى العربي للبيئة والتنمية
الافتتاحيات

البيئة العربية في 10 سنين
وضع البيئة في العالم العربي تراجع في جوانب كثيرة، لكنه أحرز تقدماً على بعض الجبهات. هذا هو الاستنتاج الرئيسي الذي توصل إليه التقرير الجديد للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) وعنوانه "البيئة العربية في عشر سنين". وهذا التقرير هو العاشر في السلسلة السنوية عن وضع البيئة العربية، التي أطلقها "أفد" عام 2008.
المفكرة البيئية
البيئة في وسائل الاعلام العربي
البيئة بين الجائحة والاجتياح

نجيب صعب، آذار 2022

 

جائحة كورونا واجتياح أوكرانيا، حدثان كبيران سيطبعان القرن الحادي والعشرين بآثارهما ومضاعفاتهما. ولن يقتصر هذا على البشر والحجر والاهتزازات السياسية والاقتصادية، بل سيطال كلّ ما له علاقة بالبيئة والمناخ وبرامج التنمية. وأبعد من السياسة، يخطئ من يتوهم أنه يمكن طي الصفحة ومتابعة جدول الأعمال السابق، قبل إجراء تعديلات جذرية في ضوء ما حصل.

فما كاد العالم يبدأ خطواته الأولى للتعافي من الجائحة التي أصابت 500 مليون وقتلت 6 ملايين شخص خلال سنتين، وعرقلت الانتاج والأعمال والحياة الطبيعية، حتى جاء اجتياح أوكرانيا ليكمل ما بدأته جائحة كورونا، مؤذناً بضربات قاضية في السياسة والاقتصاد والبيئة، تتطلب مواجهتها مقاربات جديدة كلّياً. ولن يُجدي بعد اليوم الاكتفاء بالتغني بعبارات مثل "التعافي الأخضر"، للإشارة إلى استخدام الميزانيات الاستثنائية الضخمة التي خُصّصت للخروج من الكبوة الاقتصادية، بما يساهم في تحقيق الأهداف البيئية والمناخية. فالتحوّل بقي بطيئاً، لا يتناسب مع ضخامة التحدّي، كما برز في سياسات الطاقة والنقل والاستهلاك.

بعد سنتين على بدء ضخّ المليارات في خطط التعافي، ما برحت النشاطات والصناعات الملوِّثة تستقطب معظم الاستثمارات. وفي مقابل وضع بعض الدول أهدافاً محددة للتحوُّل إلى الكهرباء والمحركات الأنظف في وسائل النقل، استمرت شركات الطيران الأوروبية بإطلاق المزيد من الانبعاثات، عن طريق تشغيل عشرات آلاف الرحلات الفارغة خلال محنة كورونا، وذلك لمجرّد الحفاظ على حقوقها في الخطوط. علماً أن شركات الطيران هذه حصلت على عشرات المليارات من أموال الدعم. أما الوعود بتخفيض عدد الرحلات الجوية القصيرة داخل أوروبا، واستبدالها بالقطارات الكهربائية السريعة، فبقيت في إطار التمنيات. وقد يكون الأشدّ خطراً تعزيز الثقافة الاستهلاكية المنفلتة فور بدء التعافي الاقتصادي من الجائحة، بدلاً من ترشيد الاستهلاك. وأبرز دليل على هذا أن استهلاك الغاز الطبيعي في أوروبا ازداد أكثر من 5 في المائة العام الماضي رغم الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أن أوروبا تستورد 40 في المائة منه من روسيا. وكان الأجدى اتخاذ تدابير فورية لخفض الاستهلاك، بدلاً من تشجيع الأنماط التبذيرية عن طريق دعم أسعار الغاز بمبالغ كبيرة، خاصة لتدفئة الأبنية.

لقد ذكَّر الاجتياح والعقوبات التي تلته أوروبا بخطورة الاعتماد بنسبة كبيرة على مصدر خارجي للطاقة، محكوم بالصراعات الجيوسياسية. ولولا استقرار إمدادات النفط والغاز من الدول العربية المنتجة، لكانت الكارثة أكبر وأشدّ ضراوة.

وعدا عن الغاز الروسي، اكتشف الناس في مناطق كثيرة من العالم أن بلدانهم تعتمد بنسبة كبيرة على القمح الأوكراني، مما أثار مخاوف تهدد إنتاج الرغيف. ووصل الهلع إلى دول عربية عدّة، تستورد معظم حاجتها من القمح من أوكرانيا، مما يفرض البحث عن مصادر أخرى، إذا توفّرت، وبأسعار مرتفعة. وهنا تذكّر الناس الكلام عن الأمن الغذائي، الذي أهملوه تكراراً، واكتشفوا أنه لا يقل أهمية عن الأمن القومي. وكان تقرير أصدره المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) عام 2014 عن التحديات والفرص التي تواجه الأمن الغذائي في البلدان العربية، وجد أنها تعتمد في معظم حاجاتها الغذائية الأساسية على الاستيراد، وأنّه يمكن لهذه البلدان تحقيق الاكتفاء الذاتي في الحبوب، خاصةً القمح، عن طريق تحديث القطاع والتعاون الإقليمي وتوزيع الزراعات وفق إمكانات كلّ بلد.

قد يكون الخطر النووي، في السلم والحرب، من أبرز التحديات التي وضعها اجتياح أوكرانيا على الطاولة. فقد تجدد الخوف من حوادث نووية مع احتلال القوات الروسية لموقع تشيرنوبيل، حيث توجد بقايا المحطة النووية التي تسببت عام 1986 بأفظع كارثة تلوُّث إشعاعي في العالم، وقصف محطة زابوريجيا الأوكرانية، الأكبر في أوروبا لتوليد الكهرباء النووية. كما أن التهديد بخيار استخدام السلاح النووي كان أكثر أحداث هذه المواجهة رعباً، لأن صدور هذا الكلام عن روسيا، التي تملك أكبر ترسانة نووية في العالم، يختلف عن التهديد الاستعراضي لصدّام حسين قبل عقود. فقد تبيّن أن كلّ شعارات التنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر قد تسقط في أية لحظة، ما دام التهديد النووي قائماً.

لكن فظائع الاجتياح قد تفتح الباب على تحوُّل أخضر حقيقي، أكثر مما فعلت الجائحة. فصور القصف والتهجير الحية صادمة أكثر من الصور الميكروسكوبية للفيروسات. ولن يقتصر هذا على تعاظم الضغط الشعبي ضد الحروب، ولا سيما لجهة حظر الأسلحة النووية، بل سيضع أمن الغذاء والطاقة في أولويات جداول الأعمال الوطنية، لأن الاجتياح أثبت أنه لا يمكن شراء هذا الأمن بالمال. كما سيَقبل الناس، ولو مكرهين، بفكرة أنه يمكن تعزيز نوعية الحياة عن طريق ترشيد الاستهلاك، بدلاً من اعتبار الجشع حقاً مكتسباً.

لكن مهما بلغت مستويات ترشيد الاستهلاك، فهي لن تسد العجز في فجوة الطاقة التي سببها الاعتماد المفرط على الغاز الروسي، خاصة في أوروبا، لأن المصادر الخارجية الأخرى غير جاهزة. لذا قد تضطر بعض الدول إلى الاستمرار في توليد الكهرباء في محطات الفحم الحجري التي كانت على وشك الإقفال، وحتى إعادة تشغيل محطات فحم متوقفة. ومن المرجح أن تعيد بعض الدول النظر في قرارات سابقة بوقف محطات الكهرباء النووية، على الأقل بتمديد فترة تشغيل ما يزال قائماً منها. كما ستبحث الدول عن مصادر متنوعة أكثر أماناً في المستقبل.

لا شك أن أبرز الآثار المباشرة للاجتياح على السياسات المناخية ستكون تعديل الأولويات، مهما تمادى البعض في المكابرة. وسيترتب على هذا تأخير موقت في تنفيذ التزامات خفض الانبعاثات الكربونية وتمويل التحوُّل إلى الطاقات النظيفة. لكن الهلع المتجدد من الخضوع السياسي للغاز الروسي سيسرِّع، في المقابل، الاستثمارات في الكفاءة والطاقات المتجددة، لتعزيز الاعتماد على موارد محلية. ولن ينحصر هذا في الطاقة، إذ ستعيد الدول النظر في اعتمادها المفرط على استيراد المنتجات الرخيصة، خصوصاً من الصين، تحسباً للوقوع رهينة في حال اندلاع أي صراع سياسي. والثابت أن التحول إلى الانتاج المحلي، مع الحد من النقل عبر القارات وتخفيف الاستهلاك، سيؤدي إلى تقليل الانبعاثات.

أعرف صديقاً في بلد أوروبي نجح في الأسبوعين الأخيرين فقط بإنقاص استهلاكه من الغاز للتدفئة إلى الثلث، عن طريق تدابير بسيطة لتعزيز الكفاءة الحرارية، وأيضاً بارتداء ثياب سميكة دافئة، بدلاً من التجوُّل بثياب خفيفة داخل المنزل. الصديق، الذي كان يرفض القبول بهذا في السابق على أساس بيئي فقط، أسرّ إليّ أنه، مع كثيرين من أقربائه وجيرانه، يطبّقون هذه التدابير وغيرها اليوم للتخفيف من استيراد الغاز "الروسي". لكنهم عندما يعتادون على ترشيد الاستهلاك، سيكتشفون أن هذا مفيد للبيئة والاقتصاد أيضاً، كما للأمن الوطني.

 

عودة
افلام الصور اخبار و مقابلات