نجيب صعب، العدد 273، كانون الأول 2020.
عندما تأسَّست مجموعة العشرين عام 1999، لم تكن البيئة ولا التغيُّر المناخي على جدول أعمالها. فقد كان الهدف منها جمع أهم الاقتصادات الصناعية والنامية في منتدى عالمي يعمل على تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي. غير أن "قمة الرياض" التي عقدتها المجموعة أخيراً بدّلت هذه الصورة. وقد يكون أبرز ما أفرزته القمة تظهير إرادة واضحة من الرئاسة السعودية لهذه الدورة، تضع التنمية المستدامة وقضايا البيئة في صدر الأولويات.
لقد احتلّت البيئة والتنمية أكثر من ثلث البيان الختامي للقادة، تحت عنوان "ضمان مستقبل مستدام"، تعبيراً عن عدم قابلية التنمية الاقتصادية على الاستمرار بمعزل عن الإدارة المتوازنة للأصول الطبيعية ورعاية البيئة. ولم يقتصر البيان على عنوان عام، بل دخل في التفاصيل، ملتزماً بالحدّ من التدهور البيئي، والحفاظ على التنوّع البيولوجي، والاستخدام المستدام للموارد الطبيعية وتنميتها، وتوفير الهواء والماء النظيفين، ومعالجة التغيُّر المناخي، بوصفها تحدّيات مُلحّة لهذا العصر. وربط القادة خطط التعافي الاقتصادية من جائحة كورونا بالحفاظ على الكوكب وبناء مستقبل أكثر استدامة، بما يستلزم توجيه الاستثمارات نحو الاقتصاد الأخضر، القائم على كفاءة استخدام الموارد وتجديدها وخفض الانبعاثات الكربونية. كما التزموا بحماية البيئة البحرية والبرية، بما فيها الحفاظ على الشعاب المرجانية وخفض تدهور الأراضي بنسبة 50 في المائة والحدّ من تلوث البحار بالمخلفات البلاستيكية.
كان من الطبيعي أن يحتل موضوع الطاقة موقعاً أساسياً في نقاشات قمة يترأسها أحد أهم البلدان المصدّرة للنفط. فقد دعا البيان الختامي إلى تنويع مصادر الطاقة وتطوير خيارات تقنية بديلة، عبر استخدام تشكيلة متنوّعة من الوقود، لإيصال طاقة ميسورة وموثوقة للجميع. لكنه أكّد أيضاً على أهمية التشدّد في معايير الكفاءة وخفض الانبعاثات و"التراجع التدريجي عن الدعم غير الفعّال للوقود الأحفوري"، الذي يزيد من الاستهلاك التبذيري، مع حصر الدعم بالمناطق الأشدّ فقراً.
وإذا كان مفهوم "الاقتصاد الدائري"، الذي يقوم على ترشيد استهلاك الموارد باعتماد مبادئ التخفيف وإعادة الاستعمال والتدوير، أحد أبرز الأسس التي التزمت بها مجموعة العشرين في اجتماعاتها السابقة، فقد وضعت السعودية بصمتها على القمة الأخيرة بوضع "الاقتصاد الدائري للكربون" على جدول الأعمال. هذا المفهوم يضيف مبدأً رابعاً هو "الإزالة"، أي استعادة الكربون من المصدر أو امتصاصه، بما يجعل الوصول إلى الاقتصاد الدائري الخالي من الكربون كليّاً أكثر واقعية. صحيح أن هذه النظرية متداولة في الأوساط الأكاديمية منذ سنوات، لكن قمة الرياض حوّلتها إلى جزء من خطة تنفيذية.
حتى الآن، كان البعض يتّخذ من صعوبة التخلي عن الانبعاثات الكربونية كليّاً خلال فترة زمنية محدودة، بسبب ازدياد الحاجة إلى الطاقة الميسورة وعدم توافر مصادر وتقنيات جاهزة بديلة بأسعار مناسبة، حجّة للاستمرار في استخدام وسائل ملوّثة للإنتاج. الاقتصاد الدائري للكربون يقوم على إدارة الانبعاثات في جميع القطاعات، بترشيد الاستهلاك وتطوير تقنيات جمع الكربون وتخزينه على نحو آمن، وحماية المحيطات والغابات لتعزيز قدرتها على امتصاص الكربون، جنباً إلى جنب مع الطاقات المتجددة. هكذا يتحوّل الحساب من مجمل كمية الكربون المنبعثة إلى الكمية التي تبقى في الأجواء، بعد استعادة ما أمكن منها عن طريق جمعها في المصدر وتأمين الظروف الصالحة لامتصاصها المأمون في الطبيعة، أو تطوير تقنيات صالحة لإعادة استعمالها في عمليات ومنتجات مفيدة. ويترافق هذا مع تعزيز الاستثمارات في الطاقات المتجدّدة الخالية من الانبعاثات الكربونية.
ومع أن التقاط الكربون في المصدر وإعادة استعماله أو تخزينه على نحو مأمون ما زالت عملية مكلفة، خاصة بالمقارنة مع استمرار أسعار الطاقات المتجددة في الانخفاض، إلا أنه هدف يستحق مزيداً من الجهد لتحقيقه، بالتوازي مع تحسين مستويات الكفاءة والحد من الهدر.
وقد جدّدت قمة الرياض الالتزام بمندرجات اتفاقية باريس المناخية بشأن خفض الانبعاثات الكربونية، مع التعهُّد بتنفيذ جميع بنودها، بما فيها المساهمة الدولية بمبلغ 100 مليار دولار سنوياً لمساعدة البلدان النامية على تخفيف الانبعاثات والتكيُّف مع التغيُّرات المحتومة التي لا يمكن وقفها، أكان في ارتفاع البحار أو الصحة أو إمدادات المياه أو الإنتاج الزراعي. علماً أن الأمن الغذائي والمائي والصحة البشرية احتلت حيّزاً مهماً في نقاشات القمة ومقرّراتها.
على المستوى العالمي، أكّدت قمة العشرين في الرياض استحالة فصل التنمية الاقتصادية عن رعاية البيئة، بما فيها الإدارة الرشيدة للموارد الطبيعية والتصدي الجدّي للتغيُّر المناخي. فلا تنمية حقيقية مع استنزاف الموارد الطبيعية، التي هي عصب الاقتصاد. ولا استدامة للاقتصاد مع اعتبار التغيُّر المناخي قدَراً لا يمكن ردّه، إذ إن السماح بهذا النهج يقود حتماً إلى تدمير أية إنجازات رقمية، لأن آثار التغيُّر المناخي لا تضرب مستويات الدخل القومي فقط، بل تضرب أيضاً قدرة الأرض على دعم الحياة الإنسانية نفسها.
أما في جانبها السعودي، فقد أبرزت القمة نهجاً جديداً في التعاطي مع قضايا الطاقة والمناخ لم تعهده من قبل. إنه نهج استباقي لا يهرب من التحدّي، بل يطرح المشكلة ويقترح حلّاً لها كجزء من المساعي الدولية الإيجابية. لقد انتهى زمن إنكار التغيُّر المناخي وعرقلة المساعي الدولية للمعالجة. الاعتراف بالمشكلة، مع الانخراط في العمل لوضع حلول لها، يعطي موقعاً قيادياً للدول المصدّرة للنفط في الاتفاق على بدائل تحفظ حقوقها في استثمار ثرواتها الطبيعية على نحو سليم وتنويع اقتصاداتها بوتيرة سَلِسة، بدلاً من تحميلها منفردةً مسؤولية الانبعاثات الكربونية في العالم. فهذه الدول حافظت على أمن الطاقة العالمي عقوداً طويلة، مما أنتج ازدهاراً واستقراراً، بينما ارتفعت الانبعاثات الكربونية على نحو مخيف بسبب الهدر في الاستهلاك وتقاعس الدول الصناعية عن تطوير تقنيات موفّرة ونظيفة، سعياً وراء الربح السريع.
لا شك أن انخراط الدول النفطية في المساعي الدولية لمجابهة التغيُّر المناخي، عن طريق الالتزام بالحدّ من الانبعاثات الكربونية، باعتماد الكفاءة والتحوّل إلى الطاقات النظيفة والمتجدّدة والعمل على إدارة الانبعاثات الكربونية من المصدر، يجعل النفط نفسه جزءاً من الحلّ بدلاً من أن يكون جزءاً من المشكلة.
الرسالة البيئية والمناخية لرئاسة قمة العشرين في الرياض واضحة: نريد أن نكون جزءاً من الحل، فليقدّم كل بلد مساهمته العادلة وفقاً لحجم مسؤوليته عن المشكلة.