نجيب صعب، 12 تشرين الأول 2020
ليس من عاقل يشكّك اليوم في أن المناخ يتغيّر عن نحو سريع وخطير، وأن النشاط الانساني هو السبب، خاصة من حيث زيادة الانبعاثات الكربونية المؤدية إلى الاحتباس الحراري. من المهم جداً العمل على تخفيف مسببات التغيُّر المناخي، وهذا يحصل أساساً عن طريق الحدّ من الانبعاثات الكربونية، الناجمة عن حرق الوقود في وسائل النقل ومحطات توليد الكهرباء والمصانع، إلى جانب تسارع إزالة الغابات، التي تشكل رئة الأرض. غير أن حصر الاهتمام في تخفيف المسبّبات يكاد يحجب أهمية الاعداد للتكيُّف مع النتائج. فآثار التغيُّر المناخي لم تعد مشكلة للمستقبل، بل هي معنا اليوم. ومع أن مساهمة الدول العربية في الانبعاثات المسببة للتغيُّر المناخي ضئيلة مقارنة بالمجموع العالمي، إلاّ أن الأثر عليها كبير، خصوصاً من الجفاف وارتفاع البحار، في منطقة تمتد شواطئها على طول 30 ألف كيلومتر. البحار بدأت ترتفع بمعدلات متسارعة. ويتخوّف العلماء من ارتفاع مفاجئ نتيجة لتغييرات غير محسوبة في ذوبان الجليد القطبي. والخصائص المتغيّرة للعواصف والأعاصير والفيضانات، من حيث وتيرة تكرارها وزيادة حدّتها، تهدّد مناطق واسعة بالغرق، كما حصل الأسبوع الماضي في فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، عقب فيضانات كبيرة في الصين وبلدان عدة في جنوب شرق آسيا. وأدّى الارتفاع المتواصل في الحرارة لفترات طويلة إلى جفاف تسبب بحرائق كبيرة في مناطق عدة حول العالم، كما حصل أخيراً في ولاية كاليفورنيا الأميركية. وبدأت نتائج تكرار الجفاف لفترات طويلة تنعكس بقوة على إنتاج الغذاء وتهدّد الأمن الغذائي. وتَسبَّب تغيير الأنماط المناخية في نشوء أمراض جديدة وانتقال أنواع من العدوى إلى مناطق لم تدخلها سابقاً. نحن، إذاً، نعيش وسط نتائج تغيُّر المناخ، مما يفرض العمل سريعاً لمواجهتها والتكيُّف معها، في موازاة العمل لتخفيف مسبّباتها. وإذا حصرنا الاهتمام بتخفيف المسبّبات، فقد تصيبنا النتائج الكارثية قبل تحقيق أي فوائد من تدابير التخفيف، وهي لا تعطي ثماراً إلا في المدى البعيد. لا يقتصر خطر ارتفاع مستويات البحار والفيضانات على البشر وبيوتهم، بل هو يضرب البنى التحتية، من طرقات وخطوط قطارات وموانئ وأراض زراعية وتمديدات مياه، إلى جانب الكابلات تحت البحار المخصصة لخطوط الاتصالات والكهرباء. هذا يحتّم على الدول العمل سريعاً لحماية البشر والبنى التحتية، وهو هدف ممكن، كما أثبتت تجارب ناجحة حول العالم، مثل الصين وهولندا. تخوض الصين تجربة رائدة لحماية مدنها من ارتفاع البحار والفيضانات. فهي بَنَت مئات الكيلومترات من جدران الحماية على الشواطئ الأكثر تعرُّضاً لارتفاع البحار والأعاصير، كما فعلت في أكبر مدنها شانغهاي. كما وضعت معايير جديدة لتصميم المدن الشاطئية، بحيث منعت البناء في المناطق المنخفضة الأكثر تعرُّضاً، وطوّرت تكنولوجيا "المدن الاسفنجية"، التي تقوم على امتصاص فائض المياه، بإنشاء خزانات جوفية لاستيعاب الكميات الزائدة، أكان من الفيضانات والأمطار الكثيفة أم من ارتفاع مستوى البحار. وإذا كان ارتفاع مستوى البحار يمثل لمعظم الدول تحدّياً جديداً مرتبطاً بتغيُّر المناخ، فهو واقع طبيعي كان على هولندا التكيُّف معه عبر التاريخ. ويعبّر عن هذه الحال الإسم الرسمي للبلد، وهو "نيدير لاند"، أي البلاد المنخفضة. فثلث مساحة أراضي هولندا تقع تحت مستوى البحر، و17 في المائة من مساحة هولندا الحالية هي أراضٍ مردومة، كانت قبل عقود قليلة جزءاً من البحر. عبر التاريخ، اعتمدت هولندا على بناء الحواجز والسدود الأرضية لحماية أراضيها من الغرق، إلى جانب أنظمة القنوات والتُرع وضخ المياه. وكان الضخ يحصل سابقاً عن طريق طواحين الهواء قبل أن يُصبح آليّاً. وكانت إدارة المياه، بأنظمة هندسية تطوّرت مع السنين، السبيل الوحيد للابقاء على هولندا بلداً صالحاً لحياة الانسان والزراعة. ويمثّل الحاجز المائي الضخم المتحرك في جنوب غرب البلاد، الذي أُقيم على فرع من بحر الشمال، إنجازاً هندسياً فريداً للتحكُّم بمستوى المياه وفق المتغيّرات. هذا السدّ المتحرك، الذي انتهى بناؤه عام 1986 كجزء من مشروع "الدلتا"، أصبح نموذجاً اعتمدته دول أخرى في العالم، بينها الصين. كانت الحسابات العلمية لأثر التغيُّر المناخي على البحار تتوقع ارتفاعاً بما بين 60 سنتم و200 سنتم مع نهاية هذا القرن، إذا ارتفعت الحرارة في حدود درجتين مئويتين. لكن الوضع تبدَّل اليوم، إذ تشير التوقعات إلى ارتفاع في الحرارة يتجاوز 3 درجات، في غياب إجراءات أكثر سرعة وفعالية. أكبر المدن المهددة بالغرق، في غياب تدابير إضافية لحمايتها، ستكون لاهاي في هولندا، والاسكندرية في مصر، وميامي ونيويورك في الولايات المتحدة، وريو دي جانيرو في البرازيل، وشانغهاي وهونغ كونغ وأوساكا وغيرها من المدن في شرق آسيا وجنوبها، وهي المناطق التي ستؤوي معظم الأشخاص المتأثرين بارتفاع البحار. آثار التغيُّر المناخي وراء الباب، وبعضها اصبح داخل الدار. لذا، فالأولوية في البلدان العربية اليوم يجب أن تكون لتدابير سريعة تساعد في التكيُّف معها: من السدود والحواجز والأراضي "الاسفنجية" لامتصاص فائض المياه، إلى إعادة النظر باستخدامات الأراضي وقواعد تنظيم المدن، بما يُبعد بناء المجمَّعات السكنية والصناعية والتجارية والبنى التحتية عن المناطق المعرَّضة للغرق. وفي مجال إنتاج الغذاء، المطلوب إدخال بدائل للزراعات التي تتطلب كميات كبيرة من المياه ولا تحتمل الجفاف، بدائل من أنواع أخرى تتأقلم مع الظروف المناخية المتغيّرة. ويتعيّن على القطاع الصحي الاستعداد لمواجهة أنواع مستجدة من الأمراض والعدوى في بروزها وانتقالها. وعلى القطاع الهندسي استنباط مواد وأساليب جديدة لبناء الطرقات والأبنية ومحطات الطاقة والمياه وشبكات التوزيع، بحيث تحتمل ارتفاع الحرارة. لقد تأخَّر الوقت لمعالجة شاملة لمسببات تغيُّر المناخ، بما يوقف النتائج السلبية بالكامل. لذا، فالأولوية الآن يجب أن تكون لتدابير تساعد في التكيُّف مع النتائج. أما إجراءات التخفيف من مسببات الاحتباس الحراري فلا بد من تسريعها أيضاً، لئلا يصل العالم إلى يوم يصبح فيه التكيُّف مع التغيُّرات الكبرى مستحيلاً. |