نجيب صعب، تموز 2020
منذ قدّم تشارلز داروين نتائج أبحاثه حول النشوء والارتقاء للمرة الأولى في مؤتمر علمي عام 1837، لم يتغيّر المشهد كثيراً. فهو كان يتحدث في قاعة الجمعية الجيولوجية البريطانية أمام أبرز وجوه مجتمع لندن العلمي، وخلفه مجموعة من اللوحات الإيضاحية المرسومة يدوياً.
بعد نحو 200 سنة لم يتغيّر في المشهد سوى استبدال اللوحات اليدوية بشرائح ضوئية يتم إنتاجها من خلال برامج الكومبيوتر الرقمية مثل "باور بوينت"، إلى جانب تحوُّل المؤتمرات إلى لقاءات دولية يحضرها مشاركون يسافرون من جميع أنحاء العالم. ونتج عن هذا زيادة أثر المؤتمرات على البيئة أضعافاً عما كان عليه أيام داروين.
النتائج التي توصّلت إليها دراسة أجراها أخيراً فريق جامعي هولندي حول الأثر البيئي للمؤتمرات الدولية كانت مقلقة. فقد أظهر تحليل آثار السفر والاقامة والخدمات لمؤتمر دولي حضره 5 آلاف مشارك أن مجموع مسافة السفر بلغت 44 مليون كيلومتر، أي ما يعادل 58 رحلة فضائية إلى القمر. أما البصمة البيئية الكاملة للمؤتمر على مدى يومين فقط، بما فيها الانبعاثات الكربونية والنفايات والتلوث والأثر على استهلاك الموارد، فتتجاوز ما ينتج عن 300 منزل خلال سنة كاملة. هكذا تكون البصمة البيئية للمشارك الواحد في مؤتمر دولي مساوية لنحو 50 شخصاً في الفترة نفسها.
لو تم إجراء هذا الحساب على قمة المناخ التي تعقدها الأمم المتحدة سنوياً لأسبوعين، ويشارك فيها ما يصل إلى 30 ألف شخص من جميع أنحاء العالم، لتبيَّن أن البصمة البيئية التي تتسبب بها تتجاوز 10 ملايين شخص للفترة نفسها.
غير أن المؤتمرات الدولية التي تعقدها الأمم المتحدة لا تمثل إلا جزءاً بسيطاً من المشهد العالمي للمؤتمرات، التي تطغى عليها اللقاءات الطبية. ومن أضخم هذه المناسبات المؤتمر السنوي لطب الأشعّة، الذي يعقد في الولايات المتحدة بمشاركة أكثر من 50 ألف طبيب واختصاصي من 137 بلداً، وتقدَّم فيه نحو 10 آلاف ورقة بحثية. يُعتبر هذا اللقاء ضرورياً للعاملين في مجال الطب الشعاعي، للاطلاع على أحدث الاكتشافات والتقنيات والمعدات والعقاقير. وهو يتيح المجال لتبادل الأفكار وجهاً لوجه.
حين عُقد المؤتمر الـ105 للطب الشعاعي في شيكاغو في ديسمبر (كانون الأول) 2019، لم يتمكن بعض المتحدّثين من الحصول على تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة، فطلبوا إذناً لتقديم أوراقهم العلمية عبر الإنترنت. غير أن المنظّمين رفضوا هذا على نحو قاطع، بحجة أن الامكانات التقنية للتقديم عن بعد غير متوافرة. المفارقة أنه بعد أقل من ستة أشهر، أعلنت الهيئة المنظمة أن المؤتمر السنوي المقبل، الذي يُعقد في نهاية 2020، سيكون "افتراضياً" بالكامل، بلا حضور شخصي. فجميع الجلسات ستلتئم عبر الإنترنت، حيث يتم تقديم أكثر من 10 آلاف ورقة بحثية عن بُعد، مع مناقشتها.
ما كان يُعتبر مستحيلاً قبل شهور، أصبح العرف المتَّبع اليوم. وتبيّن أن التكنولوجيا الرقمية يمكن أن تتطوّر بسرعة، استجابة للأوضاع المستجِدَّة. وكان الاجتماع الأخير للمنتدى السياسي العالمي الرفيع المستوى حول التنمية المستدامة، الذي عُقد الأسبوع الماضي، علامة بارزة على هذا التحوُّل. الاجتماع السنوي، الذي يعقد في مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك منذ عام 2013، يشارك فيه آلاف المندوبين، من الحكومات والمنظمات الدولية والمجتمع المدني. وهو الملتقى الذي تقدّم فيه الحكومات تقاريرها الوطنية عن مراحل تحقيق أهداف التنمية المستدامة. هذه السنة عُقد الاجتماع عبر الإنترنت، بجميع جلساته العامة والفرعية.
ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من مئات الاجتماعات الافتراضية الدولية التي عُقدت عن بُعد في الآونة الأخيرة؟ الدرس الأول أن ما كان يُعتبر مستحيلاً قبل فترة قصيرة أصبح متاحاً ومقبولاً اليوم. لكن إذا كان التخفيف من السفر يحدّ من البصمة البيئية ويقلّل من التكاليف ويتيح المشاركة لعدد أكبر من المهتمين، فهذا لا يعوّض عن التواصل الشخصي في اجتماعات تُعقد "عن قرب" تحت سقف واحد. فحوار العين وتعبير الوجه وحركة الجسد جزء أساسي من متطلبات التواصل. وهذا لا يقل أهمية عن الكلام والاستماع، عدا عن أن اللقاءات في مجموعات تساعد في تطوير مهارات العمل ضمن فريق.
كما أظهرت تجربة الاجتماعات الافتراضية أن التواصل بالصوت والصورة معاً أكثر فعاليّة من التواصل بالصوت فقط. فعدم رؤية وجوه المشاركين خلال اجتماع طويل يؤدي إلى ضعف في التركيز. لكن اعتماد الفيديو مع الصوت في المؤتمرات الافتراضية الدولية يتطلب تقوية شبكات الإنترنت في كثير من الدول. وتبيَّن من الاجتماعات الافتراضية الكبيرة أن المشاركة الفردية من المتحدّثين فقط، في غياب جمهور يستمع ويناقش، تقلّل من حيوية الاجتماع ومن حماسة المتكلمين الرئيسيين، الذين يتوقون إلى تلقي ردود فعل من الجمهور، وليس فقط من زملائهم المتحدّثين.
يجب أن تكون هناك إرادة واضحة بعدم العودة إلى عصر المؤتمرات الدولية الضخمة التي يشارك فيها الآلاف، بما فيها من انبعاثات كربونية وتلويث وهدر للموارد البشرية والمالية والطبيعية. الحل في اعتماد صيغة بديلة، تجمع بين لقاءات إقليمية مصغّرة تحت سقف واحد، تضم جمهوراً ومتحدّثين، ويتم الربط إلكترونياً بين المشاركين فيها. هكذا يتوسّع الاجتماع ولا يقتصر على أفراد يتحدثون ويستمعون بعضهم إلى بعض في دائرة مغلقة.
أعرف أن البعض لن تعجبه هذه الأفكار. فالتقليل من الاجتماعات الدولية الكبرى سيفقده فرصة التبضّع والتسلية أثناء المشاركة في اجتماع للجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك أو لمنظمة الأغذية والزراعة في روما، أو التنزه على ضفاف بحيرة ليمان على هامش حضور اجتماع في جنيف، أو القيام برحلة سفاري بين جلسات مؤتمر لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة في نيروبي. لكن لا مفرّ من التعوُّد على العمل الدولي الجدّي، لأن الوضع الحرج الذي نعيشه لا يحتمل التأخير في تغيير المسار بعيداً عن سياحة المؤتمرات.
المفارقة أن بعض المنظمات وصناديق تمويل التنمية ما برحت تخصّص الجزء الأكبر من موازنة الاجتماعات الدولية لمصاريف السفر والفنادق والطباعة، فيما ترفض تحويل بعض منها إلى الاجتماعات الافتراضية والنشر الإلكتروني. لكن تغيير الذهنية يحتاج بعض الوقت. فعلينا ألا ننسى أن ما نشهده هو أوّل تغيير جذري في آلية المؤتمرات، منذ قدّم تشارلز داروين نظريته في لندن قبل قرنين من الزمن.
|