نجيب صعب، العدد 97، نيسان 2006
حوار الطرشان هو الوصف الوحيد الذي يمكن إطلاقه على كثير من النقاشات البيئية، التي غالباً ما تختلط فيها السياسة بالهواية والمصالح. لم يغب عن تفكيري ''حوار الطرشان'' خلال الأسبوعين الأخيرين، وأنا أستمع يومياً إلى آراء نوّاب ووزراء وأساتذة جامعيين ومواطنين حول خطوط التوتر العالي الكهربائية التي يجري العمل على تركيبها فوق أبنية سكنية ومدارس في منطقة المنصورية اللبنانية. الأهالي نظّموا تظاهرات احتجاج في الشوارع بهدف ايقاف العمل، خوفاً من آثار الحقول المغناطيسية على صحتهم. لكن المسؤولين حاولوا تمرير الحل الأرخص، تحت غطاء تقارير انتقائية
وزير الطاقة أكد أن لا ضرر من خطوط التوتر العالي. رئيس لجنة الطاقة النيابية أبرز تقريراً من مؤسسة الكهرباء الفرنسية يقول إن ليس هناك ما يثبت أن للحقول الكهرومغناطيسية آثاراً سيئة على الصحة. مسؤول في مؤسسة كهرباء لبنان كشف عن مواصفات كندية تقول إنه يكفي لخطوط التوتر العالي بقوة 220 كيلوفولط أن تبعد عن الناس مسافة خمسة أمتار فقط. طبيب من المنطقة ''المنكوبة'' قال إن الموجات الكهرومغناطيسية ''تؤدي إلى إصابات بالسرطان بنسبة 25 في المئة''.
إستمرّ حوار الطرشان ولم يتفق المتجادلون على شيء، لأن كلا منهم مخطئ على طريقته. فالادعاء أن ليس هناك ''ما يثبت'' أن للحقول المغناطيسية آثاراً سيئة على الصحة يذكّر بما كانت تروّجه شركات التبغ قبل ثلاثين سنة من أن ليس هناك ما يثبت تسبب التدخين بالأمراض. خلال سنوات النقاش العقيم، وإلى أن فرضت الحكومات قيوداً على التدخين واعترف الجميع بمضاره على الصحة، مات ملايين من المدخنين، الذين كان من الممكن انقاذهم. فهل علينا أن ننتظر ثلاثين سنة أخرى لنتثبت من أن الحقول المغناطيسية مضرة؟
أما القول ان المواصفات العالمية تسمح ببعد خطوط التوتر العالي خمسة أمتار فقط عن ''الناس''، فهو جملة واحدة من مقطع طويل. فالمقصود هنا المسافة المقبولة لعبور السيارات والمشاة والحيوانات بأمان تحت هذه الخطوط، وليس السكن الدائم في جوارها. كما أن اطلاق تحذيرات تخويفية من نوع تسبب خطوط التوتر العالي ''بنسبة 25 في المئة من اصابات السرطان''، وصف عام لا يعني شيئاً بمقاييس العلم. وقد يكون الأصح القول إن دراسات أظهرت زيادة في خطر الاصابة ببعض أنواع السرطان تصل إلى 25 في المئة في مناطق قريبة من خطوط التوتّر العالي.
في محاولة للخروج من المأزق، طلبت وزارة الطاقة من الاتحاد الأوروبي اعطاء رأي علمي في الموضوع: هل من اثباتات أكيدة أن خطوط التوتر العالي تضر بالصحة أم لا؟ وهذا إمعان في اضاعة الوقت، لأنه كان يمكن حصر الطلب في سؤال واحد: هل مسموح في أوروبا أن تمر خطوط التوتر العالي فوق سطوح البيوت والمدارس، نعم أم لا؟ الجواب معروف، وهو بالطبع لا. وكان أجدى برئيس لجنة الطاقة النيابية، وقبله مؤسسة كهرباء لبنان ووزير الطاقة، أن يسألوا الخبير الفرنسي الذي قالوا إنه قدم تقريراً بالسلامة الصحية لخطوط التوتر العالي: هل تمديدها في فرنسا مسموح بالشكل الذي يريدون اعتماده في المنصورية؟
قضت إحدى المحاكم مؤخراً بتعويض من الدولة تجاوز مئتي مليون دولار لصاحب مقلع صخور أوقفت الحكومة نشاطه منذ سنوات، على خلفية الضرر الذي يلحقه بالبيئة. واستند الحكم إلى أن المقلع كان يعمل بترخيص قانوني. ليذهب سكان المنصورية إلى المحاكم، ويطالبوا بتعويضات عن الضرر الذي تلحقه بهم الحقول المغناطيسية من خطوط التوتر العالي. فهل يكافَأ أصحاب مقالع الصخور الذين يدمّرون الطبيعة، ويعاقَب السكان المسالمون، لأن الدولة أرادت التوفير بتمديد خط التوتر العالي على أقصر معبر، ولو ضرب رؤوس الناس؟
لو تحكم محكمة ما ضد مدمري البيئة بدفع آلاف الملايين لاصلاح الجبال المهشمة والشواطئ المنهوبة... وقليل من الملايين فقط لحل مشكلة المنصورية بتغيير مسار خط التوتر العالي بعيداً عن المناطق المأهولة.
|