نجيب صعب، العدد 74، أيار 2004
هل سيؤدي ظهور أعراض التلوث الاشعاعي على أربعة جنود أميركيين خدموا في العراق إلى فتح ملف اليورانيوم المستنفد جدياً؟ ما يحصل حالياً يعيد الى الذاكرة أحداث عام 2001، حين دفع ارتفاع حالات الاصابة بسرطان الدم بين الجنود الايطاليين العائدين من المعارك في كوسوفو، الى تحقيقات ربطت بين الأعراض القاتلة والتسمم الاشعاعي من غبار اليورانيوم المستنفد، الذي استخدمت قذائفه في حرب البلقان. ومع أن البرلمان الأوروبي دعا في بداية عام 2003 الى وقف كامل لاستعمال اليورانيوم المستنفد، الا أن القوات البريطانية استخدمته، إلى جانب القوات الأميركية، في حرب العراق الأخيرة.
الاهتمام الأوروبي الجدي بالبحث عن الانعكاسات الصحية لليورانيوم المستنفد لم يظهر إلى العلن الا عام 2001، عقب افتضاح انتشار سرطان الدم بين الجنود الأوروبيين الذين خدموا في البلقان. أما إصابات آلاف المدنيين، قبل ذلك بوقت طويل، بالامراض القاتلة، التي تم ردّ أسبابها الى مئات الأطنان من قذائف اليورانيوم المستنفد في حرب الخليج عام 1991، فلم تلقَ اكتراثاً جدياً خلال عشر سنوات. يومها تساءلنا في هذه المجلة: هل جنود الغرب أغلى من أطفال العرب؟
قضية إصابة الجنود الأميركيين كشفتها مؤخراً جريدة ''نيويورك دايلي نيوز'' الأميركية. والجنود، الذين ينتمون الى فرقة الشرطة العسكرية الرقم 442، يتولون مهمات غير قتالية في العراق. وعلق خبير الطب النووي الأميركي آساف دوراكوفيش، الذي اكتشف الاصابة، بأن حالات أكثر خطورة لا بد أن تظهر بين الجنود الذين شاركوا في المعارك وتعرضوا لجرعات أكبر من الاشعاع.
وكانت الصحيفة الأميركية قد مولت اجراء فحوص في مختبرات مختصة لتسعة جنود من الفرقة نفسها، اشتكوا من المرض المتواصل والصداع والارهاق والآلام المعوية عقب عودتهم من الخدمة في العراق. فتبين أن أربعة منهم تنشقوا غباراً مشعاً هو أوكسيد اليورانيوم. وبهذا يكونون أول حالات اصابة مؤكدة بين الجنود باشعاعات اليورانيوم المستنفد في حرب العراق الأخيرة. ويؤكد خبير الفيزياء النووية الأميركي ليونارد ديتز انه يتوقع ظهور اصابات اشعاعية كثيرة لدى الجنود الأميركيين في المستقبل، لأن مفعول أوكسيد اليورانيوم طويل الأمد.
اذا كانت هذه حال الجنود الأميركيين، الذين يفترض أنهم احتاطوا لمخاطر اليورانيوم المستنفد في ساحة المعركة، وكان جيشهم هو الذي يستخدمه، فما هي حال الناس الذين تم استخدامه ضدهم؟ حتى عام 2003، كانت حجة عدم إجراء مسح دقيق للاشعاعات وأثرها المحتمل على السكان هي عرقلة نظام صدام حسين لعمل المنظمات الدولية. أما اليوم، وبعد عام على سقوط هذا النظام، في حرب استخدمت فيها مجدداً مئات الأطنان من اليورانيوم المستنفد، فما هي حجة التقاعس عن إجراء دراسة ميدانية موضوعية باشراف منظمات دولية وهيئات علمية موثوقة؟
كانت هناك مبادرتان محدودتان في هذا المجال، قام بهما فريقان علميان زارا العراق بعد الحرب، واحد من اليابان في تموز (يوليو)، والآخر من معهد أبحاث أميركي مستقل في أيلول (سبتمبر) 2003. النتائج التي توصل إليها الفريقان كانت مذهلة. فهي أظهرت مستويات اشعاعية في مواقع الآليات المضروبة وصلت الى آلاف أضعاف المعدلات الاعتيادية، كما رصدت غباراً مشعاً، مئات الأميال في الصحراء بعيداً عن مواقع المعارك.
القول إن أجهزة القياس التي استخدمها الفريقان قد لا تكون دقيقة ليس حجة مقبولة. فالرد الوحيد لمن يعترضون على دقة هذه النتائج هو اجراء دراسة ميدانية فورية باشراف دولي، لتحديد مستوى الاشعاعات في العراق، امتداداً الى صحراء الكويت، وإعلان الأرقام بلا مواربة. ويستتبع هذا وضع خطة عاجلة لتنظيف الأراضي الملوثة ومعالجة الاصابات.
إن التأخير المتعمّد لاجراء هذه الدراسة يجعلنا نتوجس من أن المخفي أعظم.
|