نجيب صعب، العدد 72، آذار 2004
إلتهابات في العيون وحرقة في الحنجرة وصعوبة في التنفس، عوارض ازدادت الشكوى منها في بعض المدن العربية مؤخراً. وهذه الظاهرة ليست محصورة في المناطق المحيطة بالمصانع بل هي شائعة داخل جميع المدن المزدحمة. وقد حصل هذا التطور في بيروت، والقاهرة من قبلها، على الرغم من تأكيدات المسؤولين أن مستويات تلوث الهواء ستنخفض بعد منع الوقود المحتوي على الرصاص، إضافة الى منع السيارات الصغيرة العاملة على المازوت (ديزل) في لبنان.
خبير دولي في تلوث الهواء زار بيروت مؤخراً ففاجأه لون الأفق عند الصباح، إذ ظهرت بوضوح طبقتان من ثاني أوكسيد النيتروجين، فحذّر من أن هذا مؤشر إلى ارتفاع التلوث بغاز الأوزون. المرة الأخيرة التي تم فيها قياس مستوى الأوزون في لبنان كانت سنة 1997، حين أعد فريق من الجامعة الأميركية في بيروت دراسة عن نوعية الهواء، أظهرت أن نسبة الأوزون وصلت الى 400 ميكروغرام في المتر المكعب، أي نحو ضعف الحد الأعلى الذي يمثل حدّ الخطر. ومع أن أي قياس للأوزون لم يحصل بعد ذلك التاريخ، لكن لون السماء والتهابات العيون والجهاز التنفسي دليل حاسم على أن الوضع المتدهور ازداد سوءاً بدل أن يتحسن. وكانت دراسة قدمت هذا الاسبوع الى مؤتمر دبي حول الغلاف الجوي قد بينت أن مستويات غاز الاوزون في أجواء دبي مرتفعة فوق المعدلات المقبولة خلال أشهر الصيف.
مع أشهر الصيف المشمسة، يزداد تركيز الأوزون السام في الهواء، لأن الأشعة فوق البنفسجية هي الطاقة التي يحتاجها لانتاج جزيئاته. وقد ظهر من دراسة دبي أن هذه الحالة ليست محصورة في لبنان ومصر، اذ ان مدناً عربية كثيرة تعاني مشاكل مشابهة. والدخان الأسود قد يكون أقل المؤشرات على التلوث، لأن التلوث الخطر في الهواء قاتل خفيّ.
صحيح أن كمية الجزيئات المتطايرة في الهواء تتناقص مع إيقاف السيارات العاملة على الديزل، وأن نسبة الرصاص المنبعث تقلّ بعد منع الوقود المحتوي على الرصاص. لكن يبدو أن هذا أدى الى ظهور مشاكل أخرى، سببها انتشار الوقود الخالي من الرصاص والمحتوي على البنزين.
ومع أن الاسم الشائع لوقود السيارات في منطقتنا هو "بنزين"، فان نسبة البنزين في هذا الوقود (gasoline) أصبحت قليلة جداً لا تتجاوز واحداً في المئة وفق مواصفات الاتحاد الاوروبي المعمول بها منذ العام 2000. أما نسبة البنزين في الوقود في معظم الدول العربية فهي تتجاوز خمسة في المئة، ويتوقع ان تكون في الواقع أعلى كثيراً في غياب رقابة فعلية. ويؤكد الخبراء أن نسبة 5 في المئة من البنزين، حتى لو طبقت فعلاً، تبقى مرتفعة جداً، بعدما تأكدت الأضرار السرطانية لهذه المادة.
حين تم منع الوقود المحتوي على الرصاص كلياً في لبنان عام 2002، لم تلحظ المواصفات إضافة مادة بديلة عن الرصاص لخدمة محركات السيارات القديمة. وتدلّ الاحصاءات إلى أن 70 في المئة من السيارات العاملة في لبنان يتجاوز عمرها عشر سنوات، وأكثر من 10 في المئة يتجاوز عمرها عشرين سنة، مما يعني أن معظم السيارات في البلد تحتوي على محركات قديمة مخصصة للوقود الذي يحوي رصاصاً. وفي حين يمكن لهذه المحركات القديمة أن تعمل على وقود بلا رصاص، لكن فعاليتها في هذه الحالة تنخفض كثيراً، فتستهلك كمية أكبر من الوقود وترتفع نسبة الانبعاثات الخطرة منها.
لذا اعتمدت الدول التي تحولت إلى الوقود الخالي من الرصاص على برنامج من مراحل متعددة، غايته تشجيع سحب السيارات القديمة من الاستعمال بالتدريج. ففي مرحلة أولى، تم تخفيض سعر الوقود الخالي من الرصاص لتشجيع المستهلكين على شراء سيارات مخصصة له، بينما استمر بيع الوقود المحتوي على الرصاص لخدمة السيارات التي تحتاجه. وبعد سنوات، منعت كلياً المحركات الجديدة العاملة على وقود يحتوي على الرصاص، مع السماح للسيارات القديمة بالعمل حتى انتهاء عمرها تلقائياً. هذه المرحلة الأخيرة ما زالت مستمرة في أوروبا، حيث يباع الوقود الخالي من الرصاص إلى جانب نوع آخر مخصص لما بقي من سيارات تحتاج الى الرصاص، وهذا يحوي مادة بديلة تساعد على الاحتراق في المحركات القديمة. وتجدر الاشارة الى أن اختيار هذه المادة البديلة مهم جداً، اذ ان مضاعفات صحية خطرة نتجت عن استعمال بعض بدائل الرصاص.
ما يحصل في لبنان أن مئات آلاف السيارات القديمة تعمل اليوم على وقود خال من الرصاص ويحتوي على نسبة عالية من البنزين، مما يتسبب بضعف في الاداء وزيادة في الاستهلك وتلوث خطير. حين يستخدم الوقود بلا رصاص في المحركات القديمة، تعبر كمية كبيرة منه المحرك من دون أن تحترق، بما فيها مواد مسرطنة في طليعتها البنزين. والمحركات المصنَّعة للعمل على الرصاص لا تحتوي على محول حفّاز catalytic converter، وهذا لا جدوى من اضافته لاحقاً إذا م تكن السيارة مصنّعة أساساً لاستخدامه. وفي غياب المحوّل الحفاز، لا يمكن لهذه المحركات تحويل أوكسيدات النيتروجين الى نيتروجين وأوكسيجين، أو تحويل الهيدروكربونات الى كربون وماء. هذا يعني أن التحوُّل العشوائي إلى الوقود بلا رصاص أدى الى ارتفاع مخيف في أوكسيدات النيتروجين والهايدروكربونات، مع ارتفاع كبير في كمية مادة البنزين في أجواء بيروت خاصة، وهي من أبرز مسببات سرطان الدم.
لماذا الخوف من أوكسيدات النيتروجين والهايدروكربونات؟ إن مزيج هذه المواد هو النذير بتكوين غاز الأوزون الشديد السمية. والعامل المتبقي الذي نحتاجه لحفز تكوين الأوزون من مزيج هذه المواد هو الطاقة من الأشعة فوق البنفسجية، التي تشطر أجزاء أوكسيدات النيتروجين والهايدروكربونات فتحولها إلى أوزون. ولأن لبنان والمنطقة العربية عامة لا ينقصها الشمس، نستطيع أن نتبين جسامة الخطر.
لقد ربحنا بتقليل جزئي في كمية الرصاص، وخسرنا برفع كميات البنزين المسرطن وغاز الأوزون السام في الأجواء. ومع أن منع الرصاص في الوقود مفيد وضروري، الا أن نتائجه محدودة في المدى المنظور. فالتعرض للرصاص يحصل أساساً من دخوله الجسم مع التراب والغبار ورذاذ الدهان، وليس من استنشاق الهواء العادي. لذا فأكثر من يتعرض للتسمم بالرصاص هم الأطفال، بسبب عادة مص الأصابع، إذ يلمسون التراب والأرض والأشياء الملوثة بغبار الرصاص وينقلون رواسبه إلى الجسم عن طريق الفم. وفي حين أن نسبة الرصاص في الهواء تنخفض سريعاً عند منعه في وقود المحركات، إلا أنه يبقى طويلاً في التراب. لذا فإن الأسلوب الأجدى المعتمد لدراسة تركيزات الرصاص هو قياس نسبته في دم الأطفال.
ومن مسببات المشكلة أيضاً منع السيارات العاملة على المازوت (ديزل) بلا دراسة متأنية. فبدل الاكتفاء بايقاف نحو ثلاثين ألف سيارة كانت تعمل بمحركات مستعملة مُنع استعمالها في بلد المنشأ منذ عشرات السنين بسبب تلويثها وتم استيرادها كخردة، منع القانون استعمال الديزل في محركات السيارات كلياً. وهذا يخالف العلم والاتجاه العالمي، حيث تم تطوير محركات حديثة قليلة التلويث وذات كفاءة عالية تعمل على الديزل. ففي أوروبا تعمل 40 في المئة من السيارات الجديدة على الديزل، وتصل هذه النسبة الى 60 في المئة في فرنسا و70 في المئة في النمسا. والذين يتابعون مجلات السيارات العالمية يلاحظون أن معظم المحركات، التي يتم تطويرها حالياً بتكنولوجيات جديدة، تعمل على الديزل.
هذه هي بعض انعكاسات قانون الحد من تلوث الهواء الناتج عن وسائل النقل. والمؤسف أن المؤسسات المعنية لم تكلف نفسها اجراء قياسات لمعرفة مستويات التلوث قبل القانون وبعده. ما هي مستويات البنزين في الهواء؟ ما نسبة غاز الأوزون؟ ما هو مستوى الرصاص عند الأطفال؟
سيردّ بعض الجهابذة بالتشكيك في صحة ما نقول، مع غياب أرقام حديثة. غير أن الكارثة يمكن رؤيتها بالعين المجردة، ولا يمكن اخفاء عوارض حرقة العيون والحنجرة والجهاز التنفسي.
في المناسبة، من المسؤول عن عدم اجراء قياسات ودراسات حديثة؟ لا يمكن التحجُّج بقلة الأموال، في وقت تصرف الملايين من الهبات الدولية على برامج لا يعرف أحد أين تبدأ وأين تنتهي؟ لماذا لا تبادر الهيئات المسؤولة، مثلاً، إلى تأمين ميزانية تشغيل لمعدات حديثة جداً لقياس تلوث الهواء تربض منذ سنوات في مستودعات كلية الهندسة في الجامعة الأميركية في بيروت، التي حصلت عليها كهبة، وأهملتها بحجة عدم توافر أموال لاستعمالها؟ وأين يمكن للمواطن العادي، ناهيك عن الباحث، الحصول على بيانات حديثة، يتم تجديدها يومياً، عن وضع الهواء في المدن العربية؟
أم أن هناك من يعرقل إجراء دراسات وقياسات للتلوث، خوفاً من أن تؤدي الى فضح الحالة المزرية التي سببتها السياسات العقيمة، ولئلا تسقط ورقة التين عن المشاريع والانجازات الوهمية؟ |