البيئة والمستقبل العربي
نجيب صعب،
العدد 1، حزيران ـ تموز 1996
إن إصدار مجلة اقليمية عربية تعنى بموضوع البيئة والتنمية، الآن، ومن بيروت، حدث ذو دلالة. فبمقدار ما تستجيب هذه المجلة لحاجة ملحّة في العمل الاقليمي العربي للبيئة والتنمية، تتحدى من يريدون تدمير حاضر لبنان وسرقة مستقبله، بالتوجه نحو المستقبل بثقة العلم والمعرفة.
إصدار هذه المجلة الاقليمية من بيروت هو تعبير عما نريده للبنان في المنطقة. إن طريق لبنان الى دور اقليمي متجدد تمر عبر النجاح في تطوير قدراته في البحث العلمي والخدمات والاستشارات الهندسية والتكنولوجية والتدريب في قضايا البيئة. وطريق العرب الى المستقبل تمر عبر التنمية المتكاملة، التي تستثمر الموارد بحكمة لتلبية حاجات الحاضر، وتحافظ عليها لمصلحة الأجيال المقبلة.
لقد شهد العالم العربي خلال العقد الماضي مبادرات مهمة في مجال البيئة، تمثلت على المستوى الاقليمي في إنشاء "مجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة"، وعلى المستوى الوطني في تطوير قوانين بيئية في كثير من البلدان، ووضع شروط بيئية علمية متشددة للمناطق الصناعية في دول الخليج العربي، وإنشاء محميات طبيعية في المملكة العربية السعودية والبحرين وُعمان والامارات العربية المتحدة والأردن. ووقّعت معظم الدول العربية على المعاهدات الدولية لحماية البيئة.
غير انه على رغم الجهود الانمائية وآلاف الملايين التي انفقتها الحكومات لتحسين حياة شعوبها، ما زال الوضع البيئي العربي يعاني مشاكل كبرى. فاليوم يفتقر 60 مليون نسمة في العالم العربي الى مياه شرب نظيفة، ويعيش 45 مليون عربيّ في مدن تعاني تلوث الهواء بنسب غير مقبولة، وتتم خسارة آلاف الهكتارات الخضراء سنويا بسبب التصحّر. ويموت سنويا اكثر من مليون طفل عربي تحت الخامسة بأمراض معظمها ذات أساس بيئي. وقد ضربت الحروب الموارد الطبيعية والبيئة العربية في اكثر من مكان، وتركت بصماتها على النظم الايكولوجية من لبنان والمشرق الى الكويت والخليج.
ومع ازدياد عدد السكان في المنطقة من 240 مليون نسمة الى 320 مليون نسمة خلال السنوات العشر المقبلة، سيزيد الطلب على الموارد الشحيحة للمياه، وسيرتفع عدد سكان المناطق الريفية من 120 مليون نسمة الى 140 مليونا، مما سيزيد الضغط على المناطق الزراعية المحدودة. وسيزداد سكان المدن 70 مليون نسمة، مما سيتسبب في زيادة الأعباء على الخدمات في المدن. وسيؤدي النمو في المدن والصناعات الى زيادة مشاكل التلوّث على نحو متسارع. وسيزداد تلوث الهواء من وسائل النقل بنسبة 60 في المئة، بينما سيزداد التلوث بالمواد الصناعية والنفايات أكثر من 50 في المئة.
الحل ليس في وقف عجلة التنمية، اذ ليس صحيحاً أن التخريب البيئي ثمن لا بد من دفعه لقاء إنجاز النمو الاقتصادي. الحل هو في إطلاق التنمية المتكاملة الى أبعد الحدود، مع ادخال ثمن التخريب البيئي في حساب الربح والخسارة، أي في صلب عملية اتخاذ القرارات. لا جدوى من سياسة بيئية مضافة الى السياسات الاقتصادية او منفصلة عنها. فالتنمية القابلة للاستمرار تقوم على توازن الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وتعتمد على التكنولوجيا الملائمة لخدمة الاقتصاد والبيئة معا. ومع أن النمو الاقتصادي يتسبب غالبا في استهلاك أكثر للموارد، غير أنه من ناحية أخرى يسهّل إيجاد حلول للمشاكل البيئية. وقد يكون واجبا القبول بضرر بيئي في المدى القصير، اذا كان لا بد منه لتحقيق نمو اقتصادي يساعد على حماية البيئة في المدى البعيد.
إن تقويما رقميا للثمن الباهظ الناتج عن اهمال الاعتبار البيئي كفيل بان يقنع أصحاب القرار بادخال الرقم البيئي في أساس المعادلة الاقتصادية. لقد أظهرت دراسة حديثة أن العالم العربي يخسر عشرة آلاف مليون دولار سنويا، أي 3 في المئة من إجمالي الناتج القومي، بسبب تدهور نوعية الأرض الصالحة للزراعة، والأمراض الناشئة من تلوث الهواء. وهذا جزء صغير من مجمل الخسارة الاقتصادية الناتجة عن أسباب بيئية، ناهيك عن الخسارة الاجتماعية والثقافية التي يصعب تقديرها بأرقام. والخروج من هذا الوضع يتطلب سياسات انمائية تقوم على دفع الثمن الفردي لقاء الربح الاجتماعي. ولما كان التدهور البيئي يضغط أساسا على فقراء الأرياف من خلال اضعاف انتاج الموارد الطبيعية التي يعتمدون عليها، فالسياسات البيئية القابلة للحياة يجب أن تترافق مع إيقاف دورة الفقر، لأن الاستقرار الاجتماعي والدخل الأعلى يمكّن المجتمعات من اعتماد خيارات بعيدة المدى لاستهلاك الموارد، تعطي مردودا في مستقبل لا يعود التخطيط له مجرد رفاهية فكرية.
ونحن لا نطرح موضوعاً غريباً عن تراث العرب حين نؤكّد على مفاهيم احترام البيئة والعمل بالتوافق مع الأنظمة الطبيعية. فمنذ آلاف السنين دأب سكان هذه المنطقة على استخدام الموارد الطبيعية بحكمة وتعقّل، مرتكزين إلى أسس دينية وحضارية تدعو الى احترام الطبيعة والانسجام معها.
هذه المجلة نريدها مدماكاً في بناء مستقبل عربي أفضل وأنظف وأكثر اخضراراً، عن طريق العلم والتكنولوجيا المتلائمة مع البيئة العربية. ان الاستثمار في البيئة هو استثمار في مستقبل العالم العربي. |