نجيب صعب، العدد 32، تشرين الثاني 2000
يقف الاقتصاد السوري على عتبة عصر جديد، يؤشر له برنامج الحكومة لخلق نحو نصف مليون فرصة عمل إضافية، مما يستدعي تشجيع الاستثمارات وتطوير أساليب الانتاج. وقد جاء قانون الاستثمار المستحدث ليدعم هذا التوجه، عن طريق تبسيط المعاملات على المستوى المركزي كما في نطاق المحافظات، حيث تم انشاء لجان استثمارية محلية مهمتها دراسة الطلبات والخروج بقرارات حاسمة خلال 48 ساعة.
هذا كله مطلوب ومرغوب، ولا بد أن يؤدي الى تدفق الرساميل. فسورية بلد غني بموارده وقواه العاملة وموقعه الاستراتيجي، ويتمتع بطاقة تنافسية عالية. وإن تحديث القوانين وتطوير الادارة وتدريب الكفاءات عوامل كفيلة بإحداث طفرة سريعة في الانتاج. وسيكون لهذا أثر فعال في تعميم التنمية وايصال فوائدها الى جميع قطاعات المجتمع.
غير أن الاندفاع السريع نحو التنمية قد يحصل، في حالات كثيرة، على حساب البيئة. فتلبية حاجات الناس الملحة في المدى القصير قد تتم بأساليب تدمّر الموارد وتؤذي الناس، وهما أساس الانتاج، في المدى البعيد. ولنا في تجارب دول أخرى، اندفعت في التصنيع وأهملت البيئة، نماذج لما يتحتم تجنبه وعدم تكراره. فإصلاح الضرر البيئي، في معظم الحالات، أعلى كلفة من الحيطة لمنعه في بداية الطريق.
إن في بدايات عمل اللجان الاستثمارية في المحافظات بعض مؤشرات الخطر، الذي ما زال الوقت مؤاتياً لتجنبه في هذه المرحلة المبكرة. هذه اللجان تضم مندوبين عن مديريات البيئة في المحافظات، مما يشكل عنصراً ايجابياً مهماً. لكن السؤال يبقى: هل هذه المديريات مؤهلة ومجهزة للقيام بعمل التدقيق والتقييم والمراقبة، وهل يمكنها تقويم الأثر البيئي لمشروع ما خلال 48 ساعة، كما هو مطلوب؟ بعض هذه المديريات تفتقر الى سيارات خدمة ينتقل فيها مندوبوها الى موقع المشروع المقترح. وبعض المشاريع تتطلب خبرات غير متوافرة في المديريات وتحتاج الى معلومات إضافية. فهل من المقبول أن يتم تمرير المشروع بتقرير بيئي منقوص أو بلا تقرير بيئي على الاطلاق؟
التنمية الاقتصادية ضرورة لا جدال فيها. ولسنا ممن ينتمون الى مجموعات "الأصولية البيئية"، التي تقف في مواجهة كل تصنيع وتطوير. حتى أننا نقول انه قد يكون مطلوباً أحياناً القبول بضرر بيئي في المدى القصير، اذا كان هذا ضرورياً لتحسين الوضع المعيشي للناس واعطائهم القدرة على الانتاج والحياة الكريمة. فبعض الضرر البيئي الآني، اذا جاء في إطار عملية الانتاج والتنمية، يمكن معالجته في المستقبل على مستوى أفضل وأكثر فعالية، بتكنولوجيات ملائمة ومجتمع ينعم بالرخاء وينظر الى بناء الغد كهدف يمكن تحقيقه وليس كرفاهية فكرية. لكن تحقيق هذه النظرية، التي قد تبدو بسيطة، يحتاج الى تدابير معقدة تمنع تجاوز بعض الخطوط الحمر والتسبب بتدمير لا يمكن معالجته. فالسياسات البيئية يجب أن تعتمد سلم أولويات يأخذ في الاعتبار التسلسلي حسب الأهمية: إلحاح المشكلة، والضرر الذي لا يمكن إصلاحه، والأثر على الصحة، والأثر على نوعية الحياة. وفي هذا الاطار، يجب أن يوقف فوراً أي عمل ينتج عنه ضرر بيئي لا يمكن إصلاحه، حتى لو أدى هذا الى تأخير في عمليات التنمية الاقتصادية.
البيئة سلعة ذات ثمن، وللتخريب البيئي فاتورة اقتصادية أيضاً، الى جانب تأثيره على نوعية الحياة. وقد أظهرت دراسة حديثة أجرتها منظمات دولية، بالتعاون مع وزارة البيئة، أن الخسارة التي يسببها التدهور البيئي في سورية تقدر بمبلغ 700 مليون دولار سنوياً. وهذا ناتج عن أربعة عوامل رئيسية هي: 310 ملايين دولار من انخفاض انتاجية التربة بسبب الممارسات الزراعية غير السليمة من أنظمة ري وأسمدة ومبيدات كيميائية ورعي جائر، 290 مليون دولار من تلوث مياه الشرب والمجاري واستنفاد الموارد المائية ويذهب معظمها في معالجة المضاعفات الصحية، 60 مليون دولار من المشاكل الصحية الناجمة عن تلوث الهواء من السيارات والآليات والصناعات، 40 مليون دولار من التمدد العشوائي للمدن. تظهر هذه الأرقام أنه ما لم يتم وضع الادارة البيئية كعنصر جدي في برامج التنمية، فان الخسائر الناتجة من التدمير البيئي كفيلة بأن تقضي على عوائد التنمية نفسها. وقد تم تقدير كلفة الوقاية من هذه المشكلات البيئية الرئيسية الأربع بمبلغ 350 مليون دولار سنوياً لفترة عشر سنوات، مما يعني أن كلفة الوقاية تقل عن الخسارة التي يسببها اهمال الاعتبارات البيئية. غير أن الحل ليس بهذه السهولة، إذ إن المبالغ المطلوبة للمعالجة ينبغي توفرها دفعة واحدة، وهي لمشاريع بيئية ذات أثر بعيد المدى، مما قد يعيق برامج تنمية أخرى ملحّة وسريعة النتائج. وهنا أيضاً لا بد من التوفيق بين الحاجات الآنية والخطط المستقبلية.
التكنولوجيا الملائمة ضرورية لخدمة البيئة والاقتصاد معاً، والتحديث التكنولوجي يتيح استخداماً أكثر فعالية للموارد، يحميها ويؤدي الى تخفيف الآثار الضارة بالبيئة. ومع أن النمو الاقتصادي يتسبب غالباً في استهلاك أكبر للموارد، غير أنه من ناحية أخرى يسهّل إيجاد حلول للمشاكل البيئية. وتبقى كلمة السر: التوازن. والاستثمار الاقتصادي المجدي والقابل للحياة يجب أن يترافق مع استثمار في البيئة ونوعية الحياة، لأن هذا هو ضمان المستقبل. |