نجيب صعب، العدد 30، أيلول 2000
التقرير الذي صدر الشهر الماضي عن لجنة التنمية الخارجية في مجلس العموم البريطاني، حول برامج المساعدة للاتحاد الأوروبي، يتسم بصراحة تضع الاصبع على الجرح لأول مرة بهذا الوضوح. فقد دعا الى إصلاحات جذرية في هذه البرامج، "التي يعرقلها التأخير والغموض والفوضى والتدخل السياسي". وأكد التقرير أن على المفوضية الأوروبية إجراء تعديل فوري في برامج المساعدة الخارجية وخطط تنفيذها، وشدد على "ضرورة تخلي المفوضية عن إدمانها المزمن على أنصاف الحلول والتحلي بالشجاعة للتغيير، حفاظاً على مصلحة فقراء العالم".
لا يمكننا أن نوافق أكثر على هذا الكلام، الذي سبقه منذ شهور تقري أعدته لجنة استقصاء عينها الكونغرس الأميركي، اتهم البنك الدولي ومجموعته بالفشل في معالجة قضية الاستقرار الاقتصادي ومحاربة الفقر، مطالباً باصلاحات جذرية. وأكدت اللجنة التي ضمت عدداً من كبار علماء الاقتصاد أن فشل عمل البنك الدولي في الدول النامية يعود الى "البرامج المكررة وضعف الفعالية والفساد وهدر الموارد والعجز عن تطوير برامج اقليمية ناجحة في الزراعة والبيئة والرعاية الصحية وغيرها".
ولا تنقصنا في المنطقة العربية الأمثلة على فوضى البرامج الدولية في مجالات البيئة، التي تتناسخ في مبادرات مكررة تصرف عليها الملايين، بلا محاسبة فعلية على النتائج، وكان المطلوب صرف الأموال وعقد الاجتماعات في الفنادق الضخمة وكتابة التقارير، بلا فوائد حقيقية تصل الى الذين تم تخطيط البرامج أساساً لخدمتهم. وقد نشأت حول هذه البرامج الدولية فئة من المنتفعين والمستفيدين، تتمسك بالفوضى وغياب المحاسبة حفاظاً على مصالحها. وهذا يفسر سكوت كثيرين عن الهدر والتجاوزات، لارتباطهم بشبكة العلاقات والمصالح الخاصة التي حبكها المتاجرون بالبيئة، ليوزعوا من خلالها فضلات مغانمهم على هيئات التحرير ومجالس الادارة المزعومة. كما يشترون صمت هؤلاء وولاءهم بدعوتهم الى مؤتمرات بيئية حول العالم، يحضرها أفراد جاؤوا للتسلية والسياحة البيئية فقط.
وتأتي مبادرات الاتحاد الأوروبي البيئية في المنطقة العربية تحت أسماء متعددة، من البرنامج المتوسطي للمساعدة التقنية METAP، الى مكتب معلومات البحر المتوسط MIO، الى برنامج التمويل المتوسطي MEDA، الى غيرها، حيث تختلط ببرامج دولية مثل الخطة الزرقاء وخطة عمل البحر المتوسط في برنامج الأمم المتحدة للبيئة MAP.
في لبنان اليوم برنامج تمويل أوروبي يبلغ نصف مليون دولار، هدفه انشاء مرصد لجمع المعلومات البيئية. ولكن الذين خططوا لهذا النشاط ومولوه لم يلحظوا أن جمع المعلومات يفترض أولاً وجودها. والمعلومات عن وضع البيئة تنتجها عادة مختبرات ومراكز أبحاث، هي إما غير موجودة أو غير فاعلة. فما هو مصدر المعلومات إذاً؟ أو لم يكن أجدى دعم مراكز ومختبرات لانتاج معلومات موثوقة، قبل محاولة جمعها؟ وقد راجعنا أخيراً مسودة اقتراح مشروع لتقييم الأثر البيئي، تم اعداده لوزارة البيئة اللبنانية بتمويل من البرنامج المتوسطي للمساعدة التقنية والبنك الدولي، فوجدناه تكراراً لا يضيف شيئاً الى ثلاثة مشاريع دراسات في الموضوع نفسه تم انجازها سابقاً، بتمويل دولي أيضاً.
وقد اكتشفنا مؤخراً وجهاً جديداً في سوء استخدام المساعدات الدولية لم نعهده قبلاً. فقد وصلتنا نشرة من القاهرة بعنوان "منتدى البيئة" تحمل تاريخ نيسان (أبريل) 2000، جاء في صفحتها الثانية انها تصدر بتمويل من خطة عمل البحر المتوسط التابعة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. ووجدنا أنها نسخة طبق الأصل بجميع صفحاتها من نشرة وصلتنا سابقاً بتاريخ كانون الأول (ديسمبر) 1999، من الجماعة نفسها، مع تغيير في الاسم والغلاف فقط وتعديل في أسماء هيئة التحرير. فهي حملت اسم "المتوسطية المستدامة"، وجاء في صفحتها الثانية هذه المرة انها بتمويل مكتب معلومات البحر المتوسط والمفوضية الأوروبية. أما المحتويات وبقية الصفحات، فجاءت نسخة طبق الأصل كلياً، في كل صفحة وكل كلمة وكل صورة. والطريف أن النشرة التي تحمل تاريخ نيسان (أبريل) احتوت على اعلان من صفحة عن مؤتمر ومعرض عقدا في كانون الأول (ديسمبر) 1999. فهل وصل استغباء الناس الى هذا الحد؟ وهل هكذا تصرف مساعدات الدول والمنظمات؟ أليس هناك من يراقب المحتوى الركيك، ويلاحظ قبض مساعدات مرتين من جهات مختلفة لانتاج النشرة نفسها؟
ومن مبادرات الاتحاد الاوروبي ما يدعى "شبكة الاعلاميين البيئيين لحوض البحر المتوسط"، التي نعرف عنها فقط من خلال نشرة اسمها "المرصد البيئي"، وهي عديمة الفائدة ومتدنية المستوى، ولا عجب، إذ لم نجد بين أعضائها صحافيين. فكيف يصرف الاتحاد الأوروبي على انشاء "شبكة إعلاميين بيئيين" خالية من رجال الاعلام؟
وضمن برامج التكرار نفسها، صدر في بيروت مؤخراً "الدليل التربوي لمعلمي المدارس في التربية الصحية والبيئية"، وهو يحمل أسماء خمس منظمات دولية تولت تمويله. وتم الاعلان عنه في احتفال كبير، تحدث فيه مسؤولون حكوميون ودوليون على أنه "الدليل الأول من نوعه وسيحدث ثورة في التربية الصحية والبيئية". وقد فوجئنا حين راجعناه انه لا يتعدى مجموعة من الأفكار والمبادئ العامة في التربية، التي يمكن قراءتها في مقدمات الكتب، ولا تتجاوز كلماته الأربعة آلاف في 35 صفحة مع الفهرس والمرجع، بينما تجاوزت الكلمات التي ألقيت في المؤتمر الصحافي لاعلانه هذا القدر. وفي حين سمي دليلاً، فمحتواه مشروع خطة وعرض عام لأساليب تربوية قد تصلح للصحة والبيئة كما قد تصلح للتاريخ والجغرافيا والعلوم والآداب. وفي حين خصص معظم صفحاته القليلة لمسائل مثل النظافة وحوادث السير، اكتفى بالمرور على عناوين بيئية في 14 سطراً من 80 كلمة. فهل يجوز تقزيم موضوع البيئة بهذا الشكل؟ وفي حين ينتحل "الدليل" عنوان "الصحة والبيئة"، فليس بين مراجعه كتاب بيئي واحد. فهل ينحصر مفهوم البيئة هنا في النظافة الشخصية وآداب السير على الرصيف وعبور الشارع؟ وكم كان أصحاب هذا الدليل وفّروا على أنفسهم وعلى التربية البيئية لو راجعوا بتمعن "دليل النشاطات للنوادي البيئية المدرسية"، الذي أصدرته مجلة "البيئة والتنمية" في تشرين الأول 1999، بعد عمل استمر سنتين، شارك فيه فريق من الاختصاصيين باشراف رائد التربية البيئية الدكتور جورج طعمه، رئيس المجلس الوطني للبحوث العلمية. فهل حاول معدو "دليل التربية الصحية والبيئية" الاستفادة من نتائج هذه التجربة وخبراتها، بدل الاكتفاء بنقل عابر لبعض مقاطع "دليل النشاطات"؟ نموذج محزن آخر على كيفية صرف الأموال الدولية ومحاولة اختراع الدولاب في كل مرة.
برامج المنظمات الدولية تحتاج الى اعادة نظر شاملة. فكثير من "شبكات العمل" التي توجدها لا يبقى منها الا "الشبكة"، في حين يغيب العمل. |