نجيب صعب، العدد 26، أيار 2000
هناك ميل عام الى لوم الآخرين عندما نتحدث عن التدهور البيئي والتلوث. فنتهم الجيران والصناعيين والمزارعين والسياسيين والدول الأخرى. وحين يحصر جماعات البيئة اللوم في الآخرين، يتغاضون عن مسؤوليتهم الرئيسية في ايجاد حلول واقتراح سياسات واقعية قابلة للتطبيق، وتسويقها لدى متخذي القرار والجمهور.
وقد انتقلت عادة تحميل الآخرين مسؤولية التدهور البيئي من الناس العاديين الى وزارات البيئة المستحدثة في بلداننا، ووصل الأمر في بعضها الى نوع من عقدة الاضطهاد. وتُعرّف كتب الطب النفسي «عقدة الاضطهاد» (paranoia) بأنها اختلال عقلي يقود المريض الى الشعور بأن الآخرين يتآمرون عليه ويضطهدونه. وهذا الشعور يمنع المريض من البحث عن أساس المشكلة في نفسه، اذ انه يحصرها في العوامل الخارجية المتحالفة في مؤامرة ضده. هذا الموقف التبريري الانهزامي يقف وراء معظم ما نلاحظه من تقصير وتخلف في العمل البيئي الرسمي والأهلي. فالسياسات البيئية الصالحة هي حصيلة حوار بين حماة البيئة من جهة ودعاة التنمية من جهة أخرى. فاذا قصّر جماعة البيئة في الدفاع عن قضيتهم وتسويقها، لا يجوز أن يرموا بمسؤولية الفشل على الآخرين.
احدى وزارات البيئة المستحدثة عكفت منذ ست سنوات على وضع قانون للبيئة، تناوب عليه عشرات المستشارين، الذين يتبدلون مع كل تشكيل وزاري جديد. وبعدما تم صرف أكثر من مليون دولار على المستشارين والخبراء، وصل مشروع القانون البيئي الى اللجنة النيابية المختصة، فاعترضت عليه لاحتوائه هفوات ومخالفات قانونية ودستورية. وبدل مراجعة مشروع القانون لمعرفة مكمن العلة، اتهم «المستشارون» رئيس اللجنة النيابية بالتواطؤ مع أعداء البيئة. غير أن ملاحظاته على المشروع جاءت أكثر دقة ومهنية من المدافعين عنه: فمواده مكررة يمكن اختصارها الى النصف. وهو أغفل بعض بديهيات مشاريع القوانين، مثل ايراد الأسباب الموجبة. وحوت نصوصه مواد متناقضة في ما بينها، ناهيك عن إثارتها تشابكا في صلاحيات الوزارات والادارات المختلفة. وجاءت النصوص في صيغة ترجمة سيئة غامضة لمقاطع من قوانين دول أخرى. وحوى المشروع مواد عامة تنتج عنها مضاعفات تؤدي الى عرقلة شؤون المواطنين في أمور بسيطة، اذ لم يلحظ كيفية التطبيق ومتطلباته. فاشتراط حصول كل ترخيص بناء على موافقة وزارة البيئة، مثلاً، اذا بقي شرطاً عاماً هكذا، قد يعني أن أي طلب لبناء جدار أو غرفة أو اضافة شباك في أية قرية نائية، يتطلب موافقة وزارة البيئة. فهل هذا هو المقصود؟ وهل حسب واضعو مشروع القانون الاحتياجات الاضافية من الموظفين لتطبيق مادة كهذه، بينما تعاني وزارات البيئة نقصاً في الموظفين والموارد؟
وفي حالة مشابهة، اندفعت إحدى وزارات البيئة المستحدثة الى وضع شروط تفصيلية تفرض اجراء دراسة تقييم الأثر البيئي للمشاريع، واكتشفت متأخرة أنه لا يمكن تطبيق أي منها قبل اقرار قانون وتشريعات لتحديد المعايير، إذ ان التفاصيل تأتي في اطار سياسة عامة مسبقة. هنا أيضاً، رمى «المستشارون» مسؤولية عرقلة تطبيق تقييم الأثر البيئي على مجموعة غامضة من «الأعداء»، وكان الأجدى أن يراجعوا خطتهم، فيبدأون بتحديد السياسة البيئية، وصولاً الى الخطة التنفيذية، فالقوانين، فالتفاصيل.
وقد لاحظنا مراراً كيف أن جماعات البيئة تضع اللوم على المقاولين في الهدر والكلفة المرتفعة لبرامج مثل معالجة النفايات. وفي حين أن الهدف الشرعي للمقاول استخدام مهاراته وخبراته الفنية للحصول على ربح أكبر، تبقى مهمة الادارات البيئية القيام بدور الاستشاري الخبير. وعندما يتفوق المقاول على الاستشاري فنياً وعلمياً، يستطيع تحويل المعادلة الى مصلحة زيادة أرباحه. فاذا تم تلزيم مقاولي النفايات جمعها ومعالجتها حسب الوزن، وكانت لهم اليد الطولى في وضع الخطة الفنية، ووُضِع في عهدتهم برنامج مفترض للتوعية، هل يمكن ان ننتظر منهم العمل على خفض كمية النفايات من المصدر، أم ان مصلحتهم زيادتها لمضاعفة الوزن الذي تتم محاسبتهم على أساسه؟ وهل نلوم المقاول أم الادارات التي أهملت وضع خطة وطنية للنفايات، واكتفت بالاسعافات الأولية، وتخلت عن دورها الاستشاري الرقابي؟
ان الادارات البيئية هي المسؤولة عن وضع سياسات وخطط لتنمية البيئة وحمايتها، وليس مسموحاً أن تلوم الآخرين قبل أن تقوم هي بأعباء الدور المطلوب منها. ان مصنع المواد الكيميائية يقوم بواجبه ويمارس حقه حين يستعين بكبار العلماء لتطوير انتاجه وبكبار المحامين لحماية مصالحه، وعلى الادارات البيئية أن تستعين بعلماء وقانونيين على مستوى المواجهة، لا أن تختبئ وراء نظرية المؤامرة والاضطهاد لتغطية العجز.
على جماعات البيئة، ادارات رسمية وهيئات أهلية، الخروج نهائياً من عقدة الاضطهاد الى المواجهة الايجابية. وعليها ان تدرك مرة أخيرة أنه لا يمكن مواجهة روح الاحتراف والجدية التي يعتمدها أصحاب المصالح الصناعية والتجارية والانمائية للحفاظ على مكتسباتهم، بعقلية الهواة والتجارب والخطب الانشائية. لقد آن الاوان كي نقف ونسأل بهدوء: من منع وزارات البيئة من تطوير سياسات وطنية بيئية تقوم على البحث العلمي، وتضع أهدافاً محددة للتنفيذ في اطار زمني معين، يتيح امكانية المحاسبة والمراقبة، مثل أية خطة عمل تضعها الشركات الكبرى أو الوزارات المسؤولة عن التنمية والاعمار والخدمات؟ ومن منعها من استقطاب أفضل الاختصاصيين والخبراء لبناء مؤسسات بيئية فاعلة، بدل تجميع من تيسر من حلفاء العائلة والمنطقة والحزب؟
المطلوب من جماعات البيئة، ادارات رسمية وهيئات أهلية، الدفاع عن مصلحة البيئة باحتراف وجدية. فهذا هو واجبها، في مواجهة الدفاع الشرعي للملوِّثين عن مصالحهم. ولا نريد لوزارات البيئة أن تكون في طليعة أعداء البيئة، اذ تتخلى عن دورها في قيادة السياسة والتشريع والرقابة لمصلحة البيئة، وتكتفي بمواجهة الاعداء المحترفين بأساليب الهواة.
|