نجيب صعب، العدد 14، أيلول- تشرين الأول 1998
مشروع الدولة في لبنان ركز خلال السنوات الأخيرة على التنمية الاقتصادية. فقد كان المطلوب أن يؤمن المتطلبات الأساسية لبقاء الدولة أولاً، بإقامة السلم الأهلي وإحياء المؤسسات، وتدعيم هذه الحالة من خلال خطة البناء والنهوض الاقتصادي.
غير أن الوقت الضائع في التعاطي مع افرازات الحرب أدى إلى إهمال بعض القضايا الحيوية، كما أدى في حالات كثيرة إلى إهمال الطموحات الحضارية لجيل الشباب الذي بقي خارج حلقة الميليشيات. وقد تكون البيئة من أهم القضايا الأساسية التي لم تأخذ حجمها الحقيقي في برنامج النهوض حتى اليوم. فرغم النيات الحسنة والعمل الدؤوب، بقيت المعالجات في اطار الاسعافات الأولية، ولم يتحول العمل البيئي الرسمي الى مؤسسة يدعمها قرار سياسي. وينطبق هذا على حالات مشابهة في المنطقة.
الحاجة ملحة اليوم، وبلا أي تأخير، إلى سياسة بيئية للدولة تواكب خطة النهوض الاقتصادي ـ الاجتماعي. وهذا شأن مطلوب ومرغوب في آن معاً:
فالادارة البيئية السليمة مطلب وطني وحق للأجيال المقبلة،
والبيئة موضوع يجمع الناس ويدعم أسس السلم الأهلي،
والبيئة أصبحت اليوم تستقطب خيال المواطنين، والاهتمام بها من جانب الحكومة يستقطب دعماً شعبياً ويعطي ثقة بالمستقبل،
والبيئة موضوع أساسي في العلاقات الدولية اليوم وفي المستقبل، والاهتمام بها يستقطب احتراماً دولياً ودعماً مادياً،
والادارة البيئية السليمة لم تعد اليوم ضد التنمية الاقتصادية، بل ان السياسات الانمائية الحديثة الصالحة بيئياً هي أيضاً الأفضل اقتصادياً، في حساب يعتبر البيئة ونوعية الحياة سلعة ذات ثمن.
تتولى وزارة البيئة مسؤولية مباشرة عن القضايا البيئية الرئيسية ذات العناصر المشتركة. وهي تنسق عمل الهيئات الأخرى في المواضيع البيئية المختصة. ويمكن حصر المجموعات المستهدفة بالعمل البيئي في المواضيع التالية: الصناعة، الزراعة، النقل والمواصلات، إنتاج الطاقة، سحب المياه وتنقيتها وتوزيعها، البناء والطرق واستعمالات الأراضي، مصافي وخزانات البترول، قطاع النفايات الصلبة، قطاع معالجة المجارير والمياه المبتذلة، مؤسسات الأبحاث والجامعات، الجمعيات غير الحكومية، المستهلكون عامة.
على السياسة البيئية أن توقف فوراً أي عمل ينتج عنه ضرر لا يمكن إصلاحه، حتى لو أدى هذا إلى تأخير في عمليات التنمية الاقتصادية. ومن ثم يتم الاتفاق على خطة تفصيلية تعتمد على سياسات اقتصادية ومؤسسية عامة وأدوات تطبيقية وتدابير تفصيلية.
وقد تصدت بعض الدول لمهمة التنسيق البيئي بين الوزارات المختلفة عن طريق انشاء مجلس مركزي للبيئة يكون برئاسة رئيس الحكومة. هكذا، تصدر التدابير البيئية المتعلقة بوزارات مختلفة عن رئاسة الحكومة وليس من وزير إلى وزير آخر، مما يحل اشكالاً إدارياً. فضلاً عن أن ترؤس رئيس الحكومة للمجلس المركزي للبيئة يعطي تدابيره صفة القرار السياسي، وهو شأن مطلوب لدعم العمل البيئي.
ومن أجل اعطاء وزارة البيئة صفة تنفيذية وحصر النفقات، لجأت بعض الدول إلى جمعها مع وزارة ذات موضوع متصل بعملها. فهناك وزارة الصحة والبيئة، ووزارة الزراعة والبيئة، ووزارة التخطيط والبيئة. وكان طرح في لبنان مؤخراً دمج وزارتي البلديات والبيئة. وهذا أمر معمول به في سلطنة عمان والأردن، وقد لا يكون حلاً مثالياً في وضع لبنان. فوزارة البلديات تعالج أموراً تنفيذية يومية، بينما عمل وزارة البيئة هو أساساً تخطيطي وتوجيهي. فالخطر إذا ما دمجت مع وزارة البلديات أن تغرق في حل مشاكل يومية وإهمال الخطط والسياسات العامة. إن الحل قد يكون في الاستعانة بنموذج ناجح كما في هولندا، حيث اعتمدت صيغة وزارة التخطيط والتنظيم المدني والبيئة، فتصبح المديرية العامة للتنظيم المدني تابعة لها. فموضوع وزارة البيئة، أساساً، يتناول التخطيط والسياسات التنظيمية العامة.
إن وزارة التخطيط والبيئة يمكن أن تضم مديريتين عامتين، واحدة للتنظيم المدني وأخرى للبيئة. وتنشأ في اطار المديرية العامة للبيئة المصالح والادارات الآتية: السياسات والقوانين البيئية، الهواء والطاقة، المياه والزراعة، الصناعة وحماية المستهلك، المحميات، النفايات، الدراسات والتخطيط، الاعلام والتوعية، الرقابة البيئية، العلاقات الدولية والمنظمات.
وادارة المنظمات الدولية مهمة جداً هنا، إذ عليها تنسيق البرامج ذات التمويل الدولي والاشراف عليها للتأكد من أنها تنطبق مع السياسات العامة للوزارة وتخدم خطتها وأولوياتها. فلا يجوز الاستمرار في جمع البرامج الدولية والثنائية كيفما اتفق وفق أولويات موظفين اداريين لدى الهيئات المانحة، بلا تنسيق واشراف.
البحث العلمي هو بوابة لبنان إلى دور إقليمي متجدد. وهو مؤهل لهذا الدور. والعلوم البيئية تأتي في طليعة الاهتمامات المرجوة. غير أن الحاجة هي إلى عمل مؤسسي يوجه الطاقات في إطار منظم. وهذا يتطلب مؤسسات ديناميكية فاعلة ووضوحاً في توزيع العمل وتنسيق المهمات.
وقد يكون ضرورياً إنشاء «المؤسسة الوطنية لحماية البيئة»، كهيئة علمية وطنية مستقلة، تتولى الدراسات والأبحاث والاستقصاء والرقابة في مجال البيئة. وتجمع هذه المؤسسة بين مهمة البحث العلمي البيئي و«ديوان المحاسبة البيئي». وتتعاون المؤسسة مع «المجلس الوطني للبحوث العلمية» والجامعات لإعداد تقارير محددة عن وضع البيئة في لبنان، وإيجاد معايير علمية لحماية البيئة. وفي حين أن مثل هذه الهيئة تقوم في دول كثيرة مقام وزارة البيئة، كما في الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن القرار السياسي في موضوع البيئة يكتسب فعالية وزخماً إذا كانت وراءه وزارة مستقلة. النشاط العلمي للمؤسسة الوطنية لحماية البيئة التي نقترحها لا يتعارض مع المهمات السياسية للسلطة المركزية، بل يرفدها بالخبرات والمعلومات الصالحة لاتخاذ القرارات.
إن التناسق في عمل المؤسسات العلمية والسلطة السياسية المركزية شرط لنجاح السياسات البيئية والوصول إلى إدارة بيئية متطورة.
|