نجيب صعب، العدد 119، شباط 2008
أذكر يوم دخلت قبل سنوات إلى مكتب الدكتور محمد القصاص في جامعة القاهرة، فوجدت العالم الجليل غاضباً، على غير عادته. كان على طاولته تقرير من منظمة زراعية عالمية عن استصلاح الأراضي الجافة، وفيه أن مراكز أبحاث إسرائيلية تتولى التدريب في عشرات الدول الافريقية على تقنيات الزراعة الملحية والري بالتنقيط، بناء على أساليب طورتها ونفذتها في الأراضي العربية الصحراوية المحتلة. ''لماذا يسبقنا الاسرائيليون في هذا المجال''، تساءل القصاص، ''وماذا يمنع الدول العربية من أن تكون هي الرائدة في تطوير أساليب حديثة في الزراعة الملحية والري واستزراع الصحراء، لاستخدامها في المنطقة العربية وتعميمها؟'' وتابع: ''صحيح أن هناك مراكز أبحاث مختصة في العالم العربي، لكن نياتها حسنة وفعاليتها محدودة، لضعف التمويل والعجز عن استقطاب الخبرات، ونادراً ما تنجح في تعميم أفكارها من خلال تطبيقات واسعة النطاق على أرض الواقع''. عقب فورة الغضب هذه، كتب القصاص سلسلة مقالات في ''البيئة والتنمية'' عن البحث العلمي التطبيقي في العالم العربي، على أمل أن يجد من يسمع ويفعل.
تذكرت هذه الواقعة في مثل هذا الوقت من العام الماضي، أثناء انعقاد مجلس إدارة برنامج الأمم المتحدة للبيئة ''يونيب''. فقد عُرضت في جلسة تشاورية لوزراء البيئة العرب، على هامش اجتماعات نيروبي، وثيقة كان وقعها في كانون الثاني (يناير) 2007 مدير ''يونيب'' التنفيذي آخيم شتاينر مع السفير الاسرائيلي في نيروبي، باسم حكومته. وهي عبارة عن ''مذكرة تعاون'' بين الطرفين، يكلّف ''يونيب'' بموجبها ''مركز التعاون الانمائي الدولي''، التابع لوزارة الخارجية الاسرائيلية، المساعدة في نقل التكنولوجيا وبناء القدرات من خلال برامج تدريب في الدول النامية.
جاء الاعلان عن هذه المذكرة حافلاً بالتناقضات، في محتواه وتوقيته على السواء. فقد تم التوقيع في السابع من كانون الثاني (يناير) 2007، قبل أيام من اعلان المدير التنفيذي ليونيب، من العاصمة الألمانية برلين، نتائج التقرير الذي أعده البرنامج عن آثار حرب صيف 2006 في لبنان. والمعلوم أن اسرائيل تتحمل المسؤولية الكبرى للتدمير البيئي، الذي نتج عن قصفها الهمجي للمنشآت الحيوية والبنى التحتية، بما فيها مستودعات النفط التي تسربت محتوياتها إلى البحر المتوسط، متسببة بأفظع كوارث التلوث البحري في تاريخ المنطقة. ناهيك عن ملايين القنابل العنقودية غير المنفجرة، التي حوّلت مناطق زراعية شاسعة إلى صحارى جدباء، وما زالت تقتل المواطنين. لقد جاءت المذكرة وكأنها مكافأة لاسرائيل على جرائمها.
المفارقة الثانية أن البلد المعني، لبنان، كان غائباً عن الاجتماع البيئي الدولي السنوي، وهو نادراً ما شارك في هذا اللقاء المهم. لكن في تلك الدورة بالذات، خسر لبنان بغيابه فرصة نادرة لعرض قضيته أمام أهمّ محفل بيئي دولي.
عقب اجتماعهم التشاوري قبل سنة، شكل الوزراء العرب وفداً قابل مدير ''يونيب'' التنفيذي، للاحتجاج على مذكرة التفاهم مع إسرائيل. أجاب شتاينر أن اسرائيل عضو في الأمم المتحدة وفي المجلس التنفيذي لـ''يونيب''، ولا يمكن منعها، بهذه الصفة، من التعاون في مشاريع مع البرنامج. وأوضح أن المركز الاسرائيلي المعني ينفذ برامج في 140 دولة، بينها دول عربية. وإذ شدد على أن اتفاق التعاون ليس ''حصرياً''، طلب من الوزراء العرب اقتراح مراكز عربية للبحث العلمي مؤهلة للقيام بالتدريب على نقل التكنولوجيا وبناء القدرات، لتوقيع مذكرات تعاون معها.
في نهاية 2007، اجتمع مجلس وزراء البيئة العرب في دورته السنوية في القاهرة، حيث طُرح الموضوع مجدّداً، من خلال خطب ناريّة، معظمها لم يستند إلى خلفية الموضوع وتفاصيله.
من الوجهة السياسية، القضية تحتاج بلا شك إلى متابعة وضغط، بالتعاون مع مجموعة الدول النامية الصديقة، التي لا بد من استقطابها لنجاح أي مسعى في هذا الاتجاه. أما من الناحية العلمية، فنتساءل مع الدكتور القصاص: ماذا فعل العرب لتثبيت موقعهم في مجال البحوث العلمية وتطبيقها بنجاح في بلدانهم، قبل تصديرها؟
في العشرين من الشهر الحالي، يعقد برنامج الأمم المتحدة للبيئة مجلسه السنوي في موناكو. نأمل أن يتمكن العرب هذه المرة من اقتراح اتفاقات تعاون مع مراكز علمية عربية لنقل التكنولوجيا وبناء القدرات. هكذا تكون المواجهة. |