الملخص التنفيذي
البيئة العربية: خيارات البقاء
اذا كان النمو في أرقام إجمالي الدخل المحلي هو المقياس، فقد حققت البلدان العربية نتائج جيدة خلال السنوات الخمسين الماضية، إذ ارتفع معدل دخل الفرد أربعة أضعاف. وفي حين انعكس هذا ارتفاعاً في مستوى المعيشة في مناطق متعددة، فهو لم يحقق بالضرورة نوعية حياة أفضل ولا هو حسّن من فرص النمو المستدام في المستقبل. فقد شهدت الفترة نفسها هبوطاً حاداً في حصة الفرد من الموارد الطبيعية، بحيث انخفضت الى أقل من نصف ما كانت عليه. ورافق هذا تدهور متسارع في الأوضاع البيئية، ما جعل المنطقة على شفير الإفلاس في الموارد الإيكولوجية. هذا ما توصل اليه التقرير السنوي للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، الذي حذّر من أن مخاطر هذا الوضع لا تنحصر بفرض قيود على النمو ونوعية الحياة في المستقبل، بل هي تهدد فرص البقاء نفسها.
لقد دخلت المنطقة العربية مرحلة العجز في الموارد منذ عام 1979. واليوم تبلغ مستويات استهلاك البضائع والخدمات الأساسية لاستمرار الحياة ضعفي ما يمكن للأنظمة الطبيعية المحلية توفيره. وترافق هذا مع ارتفاع البصمة البيئية الى الضعفين وانخفاض المياه العذبة المتوفرة للفرد أربعة أضعاف.
هذه هي بعض أبرز النتائج التي توصل اليها أطلس البصمة البيئية والموارد، الذي أعده باحثون من شبكة البصمة البيئية العالمية خصيصاً للتقرير السنوي للمنتدى العربي للبيئة والتنمية، حول فرص البقاء في البلدان العربية. يحلّل الأطلس حجم الطلب على الموارد، أي البصمة البيئية، والامدادات المتوافرة بمقياس "الهكتارات العالمية"، وذلك لإلقاء الضوء على محدودية الموارد في البلدان العربية من حيث قدرة الطبيعة على التجديد.
البصمة البيئية
تقع معظم البلدان العربية اليوم تحت وطأة ديون إيكولوجية كبيرة. فمقارنة مع عام 1961، ارتفع مستوى البصمة البيئية للمنطقة 78 في المئة، من 1,2 الى 2,1 هكتار عالمي للفرد. وقد تسبب بهذا الانهيار عاملان أساسيان. الأول هو ارتفاع عدد السكان 3,5 مرات، ما أدى الى ارتفاع عام في الاستهلاك. أما العامل الثاني فهو الارتفاع الحاد في كمية الموارد التي يستهلكها الفرد، وذلك بسبب ارتفاع معدلات الدخل والتبدل في أنماط الحياة.
انخفض معدل الموارد الحيوية المتوافرة للفرد في البلدان العربية 60 في المئة خلال خمسين عاماً، من 2,2 الى 0,9 جيغاهكتار. ويمكن ارجاع هذا الانخفاض الحاد أساساً الى التزايد الكبير في السكان وتدهور القدرة الانتاجية للأنظمة الطبيعية في المنطقة، بسبب التلوث وتدمير الموائل الطبيعية والإدارة غير الملائمة للموارد.
ويتم سد العجز في الموارد الطبيعية بشكل أساسي عن طريق الاستيراد واستنزاف الموارد المحدودة المتوافرة محلياً. ويحذّر تقرير "أفد" من أن هذه الاستراتيجية غير قابلة للاستمرار، لأن الاستخدام المفرط يؤدي في المدى الطويل الى استنفاد مخزون الموارد الطبيعية وتدهور بيئي لا يمكن تصحيحه.
فمن جهة، يهدد الاعتماد المفرط على الاستيراد الأمن الاقتصادي، بسبب الارتفاع المستمر في أسعار المواد الغذائية المستوردة وخطر توقف الامدادات والقيود التجارية. أما الدول العربية غير المنتجة للنفط، فيؤدي تحمّلها ديوناً لتمويل الاستيراد الى وضع قيود على نموها الاقتصادي ويحدّ من قدرتها على تحسين نوعية حياة مواطنيها في المستقبل.
ومن جهة أخرى، فإن للادارة غير الملائمة للموارد انعكاسات خطيرة على الموارد. وقد حذّرت التقارير السنوية المتتالية التي أصدرها المنتدى العربي للبيئة والتنمية من أن الافراط في استغلال الموارد، وأثر التغير المناخي، والزيادة السكانية المرتفعة، والنمو الاقتصادي والعمراني غير المنضبط، كلها تضاعف من التحديات البيئية التي تواجه المنطقة وتحدّ من القدرة على إدارتها. وفي طليعة هذه التحديات ندرة المياه، وتدهور الأراضي، والإدارة غير السليمة للنفايات، وتدهور البيئة البحرية والساحلية، وتلوث الهواء والماء. وقدرت تقارير "أفد" كلفة التدهور البيئي في المنطقة العربية بحوالى خمسة في المئة من إجمالي الدخل المحلي، في حين أن ما تخصصه الميزانيات الوطنية للادارة البيئية لا يتجاوز الواحد في المئة في أي بلد.
وتظهر البيانات الواردة في أطلس البصمة البيئية تفاوتاً كبيراً بين البلدان العربية. فالمعدل الفردي للبصمة البيئية في قطر هو الأعلى في العالم (11,7 جيغاهكتار للفرد)، وهذا يتجاوز بتسعة أضعاف معدل البصمة البيئية في المغرب. أما الكويت والامارات العربية المتحدة فتقعان في المرتبتين الثانية والثالثة بين الدول صاحبة البصمة البيئية الأعلى في العالم.
ويتبين من أرقام الأطلس أنه اذا عاش جميع سكان العالم وفق المعدل العام للمواطن العربي، ستكون هناك حاجة الى 1,2 كرة أرضية. أما اذا عاشوا وفق معدل قطر، فستكون هناك حاجة الى 6,6 كواكب لتلبية مستوى الاستهلاك وانبعاثات أوكسيد الكربون. في المقابل، اذا عاش العالم وفق المعدل في المغرب، ستكون هناك حاجة الى ثلاثة أرباع الكرة الأرضية فقط لتلبية حاجاتهم.
ويظهر التفاوت أيضاً في أشكال أخرى، مثل كمية المياه العذبة المتوافرة للفرد، التي تراوح بين 8 أمتار مكعبة في الكويت و3460 متراً مكعباً في موريتانيا، ومعدل الدخل الفردي الذي يراوح بين ما يقارب ألف دولار في السودان واليمن وأكثر من 92 ألف دولار في قطر.
إلا أن معدل البصمة البيئية للفرد في بعض الدول العربية، مثل اليمن، منخفض جداً مقارنة مع المعدل العالمي. ويشير تقرير "أفد" الى أنه أقل حتى مما هو مطلوب لتأمين الحد الأدنى من حاجات الغذاء والمأوى والصحة والنظافة الأساسية. لهذا فإن تقليل الطلب على الموارد لا يوفر في جميع الحالات الحل الوحيد لسد العجز. فلتحسين نوعية الحياة، لا بد من إقامة توازن في توزيع الموارد ما بين الدول والمناطق، لتحقيق عدالة في حصة الفرد من الموارد الطبيعية المتجددة. وهذا يتطلب تحسين الكفاءة وإدارة مبتكرة للموارد.
ويكشف الأطلس أن البصمة الكربونية شهدت النسبة الأعلى من الارتفاع خلال السنوات الخمسين الماضية، مع نمو استهلاك الطاقة في المنطقة العربية أكثر مما في أي منطقة أخرى في العالم. وهذا يعكس انتشار الصناعات المستنزفة للطاقة والطلب المتزايد على الكهرباء ووسائل النقل من أعداد متزايدة من السكان. وقد تميز استهلاك الطاقة في المنطقة العربية بالهدر وانخفاض معدلات الكفاءة.
تغيير المسار
في ضوء الضغوط على الموارد في البلدان العربية، يركز تقرير "أفد" على تحقيق الرخاء الاقتصادي مع الحفاظ على صحة البيئة في الوقت نفسه. إنه يحاول استكشاف مستوى استهلاك الموارد الأكثر ملاءمة للاقتصادات العربية، استناداً الى رأس المال الطبيعي المتوافر.
معالجة هذه الأسئلة تتطلب تحولاً في السياسات الاقتصادية، بحيث تأخذ في الاعتبار محدوديات الموارد الطبيعية المتوافرة محلياً. وسيكون على متخذي القرار في البلدان العربية التطلع أبعد من أرقام الناتج الاجمالي المحلي كمعيار للأداء، وتطوير التحليل الاقتصادي بإدخال معلومات حول استهلاك الموارد وتوافرها وقدرة الطبيعة على تجديدها.
صحيح أن تحديد أهداف للتنمية يعتبر حقاً سيادياً وطنياً للحكومات. غير أن على خطط النمو الاقتصادي أن تأخذ في الاعتبار المحدوديات الإيكولوجية وقدرة الطبيعة على دعم متطلبات الحياة بشكل مستدام. واستناداً الى الكفاءة المتدنية التي تميز تحويل الموارد الى منتجات نهائية، على الدول العربية تحسين الانتاجية الاقتصادية لمواردها، من خلال التعامل مع كفاءة الطاقة والمياه كهدف استراتيجي مركزي.
وفي حين يحذّر تقرير "أفد" من التزايد في حجم العجز الغذائي، فهو يكشف أنه اذا استطاع منتجو الحبوب العرب الرئيسيون وقف الهدر ورفع كفاءة الانتاج والري الى المعدل العالمي، سيكون بإمكانهم سد العجز. غير أن تحقيق الأمن الغذائي يتطلب تعاوناً إقليمياً، إذ لا يمكن الوصول اليه على مستوى كل دولة منفردة من دون التسبب بمضاعفات بيئية خطيرة، خاصة في مجال استنزاف المخزون الاستراتيجي للمياه الجوفية.
البرامج الإقليمية في البحث العلمي هي مفتاح تحقيق الاستدامة والنمو المتوازن للجميع. والخيار الأساسي الذي لا بد من اتخاذه هو استخدام الدخل الحالي من النفط لبناء قاعدة علمية وتكنولوجية صلبة، كاستراتيجية لضمان البقاء وضمان فرص حياة جيدة في عصر ما بعض النفط.
ملاحظات ختامية
تواجه البلدان العربية تحدي تأمين ظروف حياة جيدة مستدامة لجميع سكانها، بدل السعي لتحقيق النمو من أجل النمو نفسه، لزيادة أرقام الناتج المحلي بأي ثمن.
وقد وجد تقرير "أفد" لسنة 2012 أنه لا يمكن لأي بلد عربي الحياة ككيان منعزل. ويوفر التنوع في الموارد الطبيعية والبشرية في المنطقة العربية يوفر أساساً صلباً للبقاء والتجدد. لكن هذا يتطلب تعاوناً إقليمياً اقتصادياً وتحرير التجارة بين الدول العربية من القيود، بحيث يشكل الانتقال الحر للبضائع والرساميل والقوى العاملة عنصر قوة تستفيد منه جميع دول المنطقة. من مصلحة الدول العربية أن تعمل ككيانات متكاملة، خاصة في عصر يتحول فيه العالم الى تكتلات اقتصادية وتجارية إقليمية، تقوم على المصالح المشتركة.
لا يرمي هذا التقرير الى زرع الخوف والهلع حول العجز في الموارد، مع أن بعض استنتاجاته قد تبدو سوداوية. إنه يرمي الى تأكيد الحاجة إلى تغيير المسار، استناداً الى رؤية لمستقبل المنطقة العربية يحفزها الأمل.
وفي هذا الإطار، يشير التقرير الى بوادر أمل تُظهر أن بعض الدول العربية بدأت بالفعل خطوات نحو الاستجابة للتحديات. فالإمارات العربية المتحدة، مثلاً، التي هي صاحبة البصمة البيئية الثالثة الأعلى في العالم، بدأت مبادرة وطنية رائدة لقياس بصمتها البيئية، وذلك بهدف معالجة العجز في الموارد واعتماد سياسات في التنمية المستدامة تقوم على العلم. ويشكل معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا في أبوظبي وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا في جدة نموذجين لمبادرات إقليمية تدعم التنمية المتوازنة عن طريق الأبحاث العلمية في الطاقة المتجددة وإنتاج الغذاء وإدارة المياه.
إن تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية حول فرص الاستدامة هو دعوة الى البلدان العربية للقيام بعمل جماعي من أجل اعتماد رؤية اقتصادية وبيئية مستدامة. التعاون الإقليمي، وكفاءة الموارد، والاستهلاك المتوازن، تشكل خيارات البقاء للمنطقة العربية. المطلوب مباشرة العمل فوراً، إذ لا يحتمل العرب إضاعة نصف قرن آخر من الخطب الرنانة.
|