سواحل لبنان
بعين البحر والسماء
النص: نجيب صعب
الصور: كارل اسطفان
هذا كتاب فريد من نوعه لأنه يصوّر الساحل اللبناني من البحر، بعدما أن اعتدنا النظر من الأرض الى البحر، أو من موقع مرتفع على اليابسة الى موقع آخر. هنا نحن ننظر من فوق، ومن جهة البحر، الى السهول الساحلية والتلال المحاذية. انقلاب الصورة هذا من الخارج نحو الداخل أمر بالغ الأهمية، إذ يتيح لنا النظر لا جماليّاً فحسب بل بيئياً أيضاً، بحيث نرى الكثير من المواقع من زاوية جديدة. فعندما يفصل المرء نفسه عن مكان مألوف يراه بمزيد من الدقّة.
النظرة السريعة الى مجمل الساحل اللبناني التي يمنحنا إياها هذا الكتاب هي دعوة مفتوحة لتذوُّق الجمال الطبيعي والوقوف موقف إعجاب أمام الحضارات التي نشأت فوق هذه الأرض وقبالتها عبر آلاف السنين. لكن هذه الدعوة، في الوقت نفسه، تنبّهنا الى الأخطار الناجمة عن الاهمال والنموّ العشوائي. بكلام آخر، إنّها دعوة مزدوجة لإصلاح الخلل والحفاظ على إرثنا الطبيعي.
ينظر كارل ستيفان الى الأرض من السماء كجزء من مهنته. فبعد دراسته الهندسة المعمارية، تابع اختصاصه في التصوير الجوي والتصوير المساحي ورسم الخرائط، كما تلقّى تدريباً في الطيران. وهو اليوم يعمل في حقل الطيران والتقاط الصور الفضائية ورسم الخرائط. وقد حاول جانباً من مهنته التي يكسب منها معيشته الى هواية، لأن التحليق يمنحه شعوراً بالفرح والحرية. وكان، في إحدى رحلاته، شاهَدَ منزله من عَلٍ، فرآه مختلفاً. ومنذ ذلك الحين أدركَ متعة أن يرى المرء الأشياء من فوق. وبدا له كل شيء مختلفاً: البحر، الساحل، البيوت، الصيّادون، الغابات... وبعد استمتاعه بهذه الخبرة الرائعة طوال سنوات، عقد كارل العزم على دعوة الآخرين لمشاركته في المغامرة: النظر الى لبنان من البحر ومن السماء.
لا بدّ من أن يكون هذا الكتاب مثيراً للذكريات بالنسبة الى اللبنانيين. وعندما نظرتُ الى صورة للجامعة الأميركية في بيروت وقد انحدرت أبنيتها وملاعبها وأشجارها وحدائقها وأدراجها من تلال رأس بيروت نحو الشاطئ، لم أتمالك نفسي من استعادة تلك الأيام التي كنت خلالها طالباً في هذه الجامعة، ثم محاضراً، قبل نحو ثلاثين سنة. ومع مرافقة المزيد من الصور التي التقطها كارل للجامعة، وجدتُني ضمن رحلة رأيت فيها الجامعة تستحمّ في البحر الأبيض المتوسّط على نحوٍ لم أعهده من قبل. واكتسبَ نشيد الجامعة الذي ألِفْناه معنىً جديداً:
بعيداً بعيداً فوق المياه
مياه الأزرق العميق
تمتدّ أرجاء جامعتنا
حيث يحلو لنا أن نكون
بعيداً بعيداً وراء جبل الكنيسة
بعيداً وراء صنّين
ترتفع بجلال نحو العلى
زاهيةً بحلّتها البرّاقة
لقد التقطت كاميرا كارل صوراً للساحل اللبناني كما هو، بوجهَيه الحسَن والقبيح. لكنه لم يشأ لكتابه أن يحوي إلا الصور الجميلة. وما هذه المناظر الأخّاذة التي نراها في صفحات الكتاب إلا عين ما نقع عليه في طبيعتنا اللبنانية. إنها صورة طبق الأصل، وليست فناً تجريدياً.
من العريضة في الشمال الى الناقورة في الجنوب، يمتد الساحل اللبناني قرابة 225 كيلومتراً، على مساحة 162,000 هكتار من السهول والتلال، أي 16 في المئة من مساحة لبنان، حيث يعيش 2,6 مليون نسمة يشكّلون 70 في المئة من عدد السكان الاجمالي. ويتركز نشاط لبنان الاقتصادي في هذه المنطقة التي تساهم بثلاثة أرباع الدخل القومي.
رحلة جمالية
من الشمال الى الجنوب
إذا انطلقنا من المنطقة الشمالية للساحل اللبناني، التي تمتد من الحدود السورية الى نهر الجوز في البترون، فإننا نستهلّ رحلتنا من عكّار. قبالة البحر هناك تقوم مرتفعات خضراء، يمتد من سفوحها سهل عكار المعطاء الذي يتصل بالبحر عند خليج رملي. الى أهميته الزراعية، يحوي هذا السهل بقايا قلاع وحصون قديمة، كتلك التي تنتمي الى العصر الروماني في عَرقة. ونصل الى طرابلس بقلعتها المشرئبّة ومعالمها الغنيّة، فإذا نحن وسط واحدة من المفاتن الأثرية لحوض المتوسط الشرقي. هذه المدينة المثلَّثة التي أسسها الفينيقيون وتعاقبَ عليها الرومان والبيزنطيون والعرب والفرنجة والمماليك والعثمانيون، تقف اليوم مثل متحفٍ حيّ يؤوي ما يزيد على 150 معلماً من مخلَّفات أُولئك الأقوام جميعاً. ويعود مرفأها الى الزمن السحيق. وقد أُعلنت ثلاثٌ من جُزرها الصغيرة محمية طبيعية. وتقوم جنوباً بلدة أنفة بمينائها الفينيقي وآثارها المسيحية الأُولى، مع مساحات شاسعة من الملاّحات الممتدة بين أشجار الزيتون على السفوح وشاطئ البحر. ثم يأتي رأس الشقعة، وهو موقع مميز لجماله الطبيعي وتنوعه البيولوجي. هناك ترتفع أجراف صخرية نحو 200 متر، يجثم فوقها دير سيّدة النوريّة. وبوصولنا الى البترون، المدينة الصغيرة بشوارعها الضيّقة الجميلة التي تؤدّي الى البحر، نصل الى موقع يضم بقايا فينيقية، بينها جدار بحري وحوض لبناء السفن ومدافن منحوتة في الصخر، الى جانب بقايا رومانية ومسيحية.
المرحلة الثانية في سياحتنا هي المنطقة الساحلية الوسطى، بين نهر الجوز شمالاً ونهر الأوّلي جنوباً. هنا نبدأ ببلدة جبيل (بيبلوس) التي طبّقت سمعتها الآفاق منذ القديم وضُمَّت عام 1983 الى قائمة التراث العالمي. وهي، بقلعتها البحرية ومرفأها وهياكلها وممرّاتها، من أقدم مراكز الاستيطان البشري على المتوسط. وقد ارتبط اسمها باختراعَين عظيمين: الأحرُف الهجائية والملاحة، وتكرَّر ذكرها في محفورات مصر الهيروغليفية. والكثير من قطعها الأثرية يقف باعتزاز في متاحف العالم. وتلي مدينة جونية، وعلى شاطئها أحد أجمل الخلجان المتوسطية، وضمنه مرفأ طبيعي آمن يطلّ على سلسلة تلال وجبال أخّاذة، لعلّ أكثرها روعة تلّة حريصا. وتضم مدينة جونية سوقاً داخلية يميزها غناها المعماري. ثم يأتي نهر الكلب، وهو موقع تاريخي مفرد في لبنان، إذ تقوم عند مصبّه صخرة تحمل الكتابات الأصليّة للملوك والفاتحين الذين دخلوا لبنان، من مصريّين وأشوريّين وأغارقة ورومان وصليبيين وفرنسيين. وتشرف على النهر بقايا طريق رومانية بُنيت عام 177 للميلاد خلال حكم ماركوس أُوريليوس، مع قناة لجرّ المياه. وباقترابنا الى العاصمة نأتي الى شريط صناعي يشرف على جبال المتن التي تتوسّط بينه وبينها بلدات الضبيّة ـ أنطلياس ـ الدورة ذات الكثافة السكانية العالية. وبوصولنا الى بيروت، نصل الى أهم حاضرة أثرية في الشرق الأوسط، مليئة بالمعالم الفينيقية والرومانية والبيزنطية والعثمانية. وقد اشتهر مرفأ بيروت منذ أقدم الأزمنة، كما اشتهر خليجها الطبيعي الجميل وصخرة الروشة البحرية. وتشكّل بيروت، محلياً وإقليمياً ودوليّاً، حاضرة تربوية ومصرفية وتجارية وسياحية. ويشهد وسطها التجاري حركة ناشطة لإعادة إحيائه بعد الخراب الذي أصابه طوال الحرب الأهلية (1975 ـ 1990).
المنطقة الجنوبية للساحل اللبناني تمتد من نهر الأوّلي الى رأس الناقورة. ولعلّ أجمل بقعة على الطريق نحو الأوّلي سهل الدامور الزراعي الخصيب. وهو غني بتنوعه البيولوجي، ويشكل ملاذاً للطيور المهاجرة. وعلى النهر جسر قديم ذو قنطرة واحدة، مع عدد من الطواحين على ضفّتيه. ونأتي الى صيدا، وهي صيدون التاريخية والمدينة الجنوبية الأولى، التي تزهو بقلعتها البحرية ومينائها الكبير. وقد نالت صيدا شهرة واسعة عبر التاريخ، وصارت جزءاً لا يتجزأ من الحضارة العربية منذ القرن الميلادي السابع. وهي متحف طبيعي لحضارات المتوسط، بما تحويه من آثار ونقوش. وتلي مدينة صور، تلك الحاضرة الفينيقية ذات السيادة، التي أسست مستعمرات في حوض المتوسط مثل قرطاجة، وقاومت الغزاة الطامعين من ملوك آشور وفارس واليونان. وتشهد على عظمتها آثارها الباقية، وأهمها قوس النصر الروماني والملعب الرياضي والحمّامات. وقد ضُمَّت الى قائمة التراث العالمي عام 1984. وتمتد آثار صور حتى الرشيديّة، قبل أن نصل الى رأس الناقورة، وهو بقعة غنيّة ببساتين الحمضيات والشواطئ الرملية والتنوع البيولوجي.
الوجه الآخر للساحل اللبناني
حتى الآن شاهدنا الوجه المشرق للصورة، الذي يبرزه هذا الكتاب. ولكن كما هي الحال في لبنان كله، هناك أيضاً صورة قاتمة للساحل اللبناني، من الناحيتين البيئية والجمالية. وإذا عدنا أدراجنا من الجنوب الى الشمال، نجد أولاً أن رأس الناقورة فقد كميات هائلة من رموله وآثاره في سبيل إقامة الطريق السريع، كما أن آثار شفط الرمول ما تزال ظاهرة على شواطئ صور. وفي صيدا أدّى تطبيق المخطط المتعلق بالواجهة البحرية منذ العام 1995 الى خسارة مساحة واسعة من الشاطئ الشمالي، وعَزْل صيدا القديمة عزلاً تاماً عن البحر، ورَدْم حوض المرفأ القديم. وارتفعَ مكبّ النفايات الصلبة على الشاطئ ليصير في حجم جبل ويمتد عشرات الأمتار داخل البحر، موزِّعاً نفاياته على الشواطئ القريبة. واتسعت مشكلة النفايات الصلبة أخيراً لتصل الى القرى الجميلة شرق صيدا.
بين صيدا وبيروت، وحتى مسافة بعيدة جنوباً، تكاد الأقدام لا تستطيع ملامسة الشاطئ من جراء المرافق التجارية والصناعية الكثيرة، التي أُقيم معظمها خلافاً للقانون. وارتفعت أكواخ التنك بين خلدة والأُوزاعي، في محاذاة مطار بيروت الدولي، وهي تفتقر الى شبكات الصرف الصحي والخدمات العامة، وطبعاً الى الترخيص القانوني. ولم يبقَ سوى مساحة ضئيلة جداً يستطيع المواطنون بلوغها، هي شاطئ الرملة البيضاء بالقرب من الروشة، لكنه من الأشد تلوثاً على الساحل اللبناني.
بِوُصولنا الى بيروت نلاحظ أن خطة إعادة الإعمار لحظت إضافة 60 هكتاراً الى الوسط التجاري، أي ما يعادل ثلث مساحة هذا الوسط، عن طريق ردم البحر. وعلى تلك الأرض يقام منتزه مليء بالأشجار، كان حتى الماضي القريب مرمى للنفايات يُعرَف باسم مكبّ النورماندي. أما ساحل المتن فقد تحوّل بالكليّة الى منطقة صناعية تَحول بين المواطنين وبلوغ الشاطئ. وعلى شاطئ أنطلياس ـ الضبيّة رُدم البحر على مساحة 1,4 مليون متر مربع بهدف إنشاء مدينة حديثة. ولكن هذه المساحة ما تزال كالصحراء بعد نحو ربع قرن. وبين جونية وجبيل ظهر عدد من المشاريع الترفيهية الخاصة بشكل عشوائي، في حين ما يزال معمل الذوق للكهرباء ينفث سمومه بلا هوادة الى البلدات والقرى المجاورة، وحتى تلك القابعة في أعالي الجبال.
ومع اتجاهنا شمالاً، نجد مصدراً كبيراً للتلوث في معمل سلعاتا للكيميائيات ومعمل الترابة في شكّا. وهذا التلوث يغطّي مساحات بحرية وبرية كبيرة في منطقة البترون وما يليها. وتبقى محمية البترون البحرية من دون خطة للادارة أو للحماية. وفي حين تحافظ بلدة أنفه على ملاّحاتها الرائعة وبساتين الزيتون والآثار القديمة بفضل قوانين التنظيم المدني، فقد فقدت جارتها الشمالية القلمون أحواض استخراج الملح باستثناء ملاحة واحدة، فيما تعرض شاطئها لتلوُّث ضخم. وتواجه أنفه نفسها خطر التمدد المديني العشوائي على أثر حركة إسكانية وسياحية ناشطة. وتعاني طرابلس، ثاني المدن اللبنانية، مشاكل الصرف الصحي، ويتعرض مرفأها لتسرب البترول من الناقلات. وتأتي المشاريع العمرانية والصناعية والسياحية بسرعة على المساحات الخضراء في طرابلس. ويبقى الكورنيش البحري الرئة الوحيدة التي تتنفس عاصمة الشمال منها. وفي عكّار، حيث بدأت رحلتنا، يعاني الشاطئ، الذي خسر الكثير من رماله، تلوثاً شديداً من جراء النفايات الصلبة والسائلة، كما تختفي مساحات كبيرة من السهل الزراعي لتظهر مكانها مشاريع سكنية وتجارية، الى جانب آلاف أكواخ التنك على امتداد الشاطئ.
الأخطار الضخمة نفسها تخيم فوق الساحل اللبناني من الشمال الى الجنوب: النفايات الصلبة، مياه الصرف الصحي، تسرب الزيت، التلوث الكيميائي الصناعي، احتكار الشاطئ للمشاريع الخاصة، شفط الرمول. وتجدر الاشارة الى أن ثلاثة آلاف طن من أصل أربعة آلاف من النفايات الصلبة التي تخلّفها المنازل وورَش البناء يومياً تجد طريقها الى البحر إما مباشرة وإما عبر الأنهار والسواقي. وهكذا تصبّ المياه المبتذلة، بما فيها مياه المجارير، في البحر، بمعدل نصف مليون متر مكعب يومياً، مسبّبة أضراراً صحية جسيمة على الشواطئ. وتتسرب الزيوت من محطات الخزن على الشاطئ أو من ناقلات النفط. ويأتي التلوث الكيميائي بأضراره الصحية من أربعين منطقة صناعية ونيّف على امتداد الشاطئ، تصدر عنها مواد حمضية وقلويّة ومعادن ثقيلة ومُذيبات ومنظِّفات ومبيدات حشريّة وسواها. وقد أدّى احتكار الشاطئ لمشاريع خاصة، معظمها غير قانوني، خصوصاً خلال الحرب الأهلية وما بعدها، الى انتشار المسابح على امتداد الشاطئ، مع حرمان المواطن حقّه في التنزه الحر على البحر، علماً أن القوانين تمنحه هذا الحق وتسمح بإقامة منشآت سياحية وصناعية محدودة جداً. أخيراً، نلاحظ أن الرمال، وهي من العناصر الطبيعية التي تحمي الشاطئ، تمّت سرقتها من غير شفقة بمعدل 1,5 مليون متر مكعب سنوياً لأغراض البناء، مع تَجاهُل مرسوم صدر عام 1994 محظّراً شفط رمول الشاطئ.
هذا التلوث المتعدد المصادر الذي تعانيه البيئة البحرية يأتي من البرّ بنسبة 77 في المئة. والنظر الى الساحل اللبناني من البحر، كما تتيح لنا هذه الصور الرفيعة التقنيّة أن نفعل، يثير فينا الرَّوعة والرَّوع في آنٍ معاً. إنّ جمال السهول والتلال والأودية والجبال المشرفة على البحر، مهما بلغت روعته، يبقى، كما الساحل كلّه، جزءاً من جمال الماضي. فالسهول والتلال المواجهة للبحر الأبيض المتوسط، والتي كانت يوماً ترفل في حلّة خضراء، باتت في معظمها، ومن الشمال الى الجنوب، ضواحي شبه متّصلة من الحجر والاسمنت، شاهدة على حركة محمومة من النموّ المديني غير المخطَّط، وخسر بعضها غطاءه الأخضر بسبب المقالع والكسّارات.
كيف نستعيد شاطئ لبنان؟
أين نجد الحلول لوضع الساحل اللبناني المتدهور؟ كيف نستعيد لبنان الشعراء والرسامين والرحّالة، وحتى لبنان الذكريات التي حملناها من طفولتنا؟ إذا كان الحل في القوانين، فلا يلزمنا الكثير منها. ذلك أنّ الحكومة اللبنانية عمدت، منذ ثلاثة عقود حتى اليوم، الى توقيع عدد من المعاهدات والمواثيق الدولية والاقليمية لحماية بيئة لبنان البحرية، ومنها: خطّة العمل الخاص بالبحر المتوسط التي أطلقها برنامج الأمم المتحدة للبيئة، اتفاق برشلونة لحماية البحر المتوسط من التلوث، اتفاق باريس لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي، الاتفاق الدولي (ماربول) للحماية من التلوث الناجم عن السفن، اتفاق بازل لمراقبة حركة النفايات الخطرة عبر الحدود، اتفاق الأمم المتحدة الخاص بقانون البحار، نظام الأمم المتحدة حول التنوع البيولوجي.
ما نحتاج إليه، مع القانون، هو الارادة والقوّة لفرض القانون. الحملات الرومنطيقية التي يدعو إليها محبّو الطبيعة مرة أو أكثر في السنة لتنظيف الشاطئ وما شابه تصدر عن دوافع صادقة ونبيلة حقاً. لكن على رغم تقديمها مثلاً صالحاً للجمهور، تبقى هذه الأعمال قاصرة عن الحل المنشود. فما نحتاج اليه كعلاج دائم يتجاوز هذا النوع من الدعوات والحملات. حاجتنا الحقيقية هي الى رجال دولة بعيدي النظر ومكرَّسين، لا يكتفون باستصدار القوانين بل يهيّئون، في الوقت نفسه، الآليّة الصالحة لفرض هذه القوانين. بكلام آخر، ما يحتاج اليه الساحل اللبناني، لا بل البيئة اللبنانية ككلّ، هو رجال شرطة وأمن وحرّاس للوطن، لا عمّال قمامة.
في أي حال، إن أي حل لمشاكلنا الساحلية المعقَّدة لا بد من أن يأتي تصوره في ضوء الكل، أي في ضوء مجمل حاجات لبنان البيئية والتنموية. وإذا كان لنا أن نحقق الهدف الأعلى في هذا الاطار، ألا وهو التنمية المستدامة، ينبغي أن نضع نصب أعيننا هذه القاعدة الذهبية: أن التنمية والبيئة هما من التلازُم بحيث أن ما ينعش الواحدة ينعش الأخرى وما يلاشي الواحدة يلاشي الأخرى. ونحن نفخر لأننا في مجلتنا "البيئة والتنمية" لم ننفكّ، عدداً بعد عدد، عن التنبيه الى هذه الحقيقة والى الهموم البيئية الملحّة لبنانياً وعربياً وعالمياً. واذا كان لنا من كلمة أخيرة حول الساحل اللبناني، فهي أن أي تنمية مستدامة لهذا الساحل يجب أن تأخذ في الاعتبار المحافظة في المدى القريب على ما تبقّى للمواطنين من الشاطئ واستعادة هذا الشاطئ في المدى الأبعد لأصحاب الحق فيه، أي الشعب اللبناني. ولا بدّ لأيّ مشروع يقام على الشاطئ في المستقبل من أن يحترم هذا الحق ولا يمزّق أوصال الشاطئ اللبناني.
كتاب كارل ستيفان هذا يحمل رسالة أمل هي الآتية: على الرغم من أن الكثير من إرثنا الساحلي قُضيَ عليه، فالكثير أيضاً ما يزال سليماً. إنّ إبراز مواطن الجمال في ساحلنا كما يفعل هذا الكتاب هو دعوة مزدوجة للمحافظة على ما بقي لنا ولإصلاح الخلل في القطاعات التي جار عليها الاستعمال المفرط والصناعة والنمو المديني العشوائي.
ولو كان للمؤلف أن يُصدِر طبعة جديدة من كتابه المصوَّر الأنيق هذا بعد عقد من الزمن، فهو سيطمح حقاً الى إبراز صورة أكثر إشراقاً للخط الساحلي كما للسهول والمرتفعات المواجهة له، من غير أن يضطر الى حذف تلك الجوانب الأليمة التي تشوّه شواطئنا وجبالنا.
"سواحل لبنان" مجلد فخم مصوَّر لكارل اسطفان يصدر في بيروت، وقد كتب مقدمته نجيب صعب. |