كتابات اخبار و مقابلات الكتب الافتتاحيات الصفحة الرئيسية
    English version  
       

للتواصل الافلام الصور السيرة رئيس تحرير مجلة البيئة والتنمية
امين عام المنتدى العربي للبيئة والتنمية
كتابات

البيئة العربية في 10 سنين
وضع البيئة في العالم العربي تراجع في جوانب كثيرة، لكنه أحرز تقدماً على بعض الجبهات. هذا هو الاستنتاج الرئيسي الذي توصل إليه التقرير الجديد للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) وعنوانه "البيئة العربية في عشر سنين". وهذا التقرير هو العاشر في السلسلة السنوية عن وضع البيئة العربية، التي أطلقها "أفد" عام 2008.
المفكرة البيئية
البيئة في وسائل الاعلام العربي
عدنان بدران: السياسة في خدمة التنمية

نجيب صعب، 25/10/2025


تردَّدت طويلاً حين طُلب مني اختيار عنوان لكلمتي، إذ ليس من السهل حصر رجل التفوّقات man of excellences عدنان بدران، الذي يعيش حياته بملئها، في عنوان واحد. فهو السياسي العالِم، والعالِم السياسي، والرائد في التربية والعمل الدولي. كما هو الوزير ورئيس الوزراء الناجح. لكن عدنان بدران لم يسخّر العِلم والتربية لخدمة طموحات سياسية، بل وضع السياسة في خدمة العِلم والتربية والبيئة والتنمية، ولم يتنازل يوماً عن مبادئه لأجل منصب. ولمّا كان مِحور كلمتي هنا عن دور عدنان بدران في المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، سأتحدث، من خلال عملنا معاً وتجربتي الشخصية معه، عن كيف وضع هذا الكبير السياسة في خدمة قضايا التنمية والبيئة.

عدنان بدران جسّد في عمله المتواصل مبدأ أن الحضارة تراكُمٌ واستمرار، وليست انتفاضات عابرة. هذا المبدأ هو بالتحديد أول ما نحتاجه لإحياء النهضة العربية، التي تحوّلت منذ زمن بعيد إلى فَوْرات يتبعها خمود. فهذا الرجل ما زال، وهو على عتبة عقده العاشر، يخلق ويقود مؤسسات علمية وفكرية وسياسية ناجحة، بلا كلل ولا توقف. وما زال يحوِّل الخيال إلى حقائق. وخلال عقدين من الزمن، لم يتغيّب يوماً عن اجتماع لمجلس الأمناء أو اللجنة التنفيذية أو مؤتمر أو لقاء للمنتدى، ولم يتقاعس عن أي مهمة طُلبت منه.

كم كان المنتدى العربي للبيئة والتنمية محظوظاً بالعمل مع عدنان بدران منذ اليوم الأول لتأسيسه. فهو جسَّد كل المبادئ التي كنا نحلم بها، وكان داعماً قوياً لتَوْقنا إلى إعلان الحقائق بلا قيود، واقتراح بدائل تساعد في وضع سياسات تحافظ على سلامة البيئة ورعاية الموارد لضمان تجدُّدها، كما تكفل في الوقت عينه استدامة التنمية المتوازنة لما فيه رفعة الإنسان. لم يكن عملاً سهلاً إعلان الحقائق بلا مواربة، استناداً إلى العِلم، وإشراك جميع المعنيين في نقاشات مفتوحة، وصولاً إلى أصحاب القرار، سعياً لتحويل الأفكار إلى سياسات. كما لم تكن المهمة ممكنة التحقيق لو لم يلتقِ حولها أشخاص يجمعون العِلم والخبرة السياسية، وفي طليعتهم الدكتور عدنان بدران رئيس مجلس الأمناء، أطال الله في عمره، وسلفه الدكتور مصطفى كمال طلبة، وزملاؤهما في المجلس التأسيسي للمنتدى، الدكتور عبد الرحمن العوضي والدكتورمحمد عبد الفتاح القصاص والدكتور محمد العشري، والأربعة غابوا عنا. ما يميُّزهم أنهم جمعوا بين العِلم والمراكز القيادية التربوية والسياسية، مما أعطاهم القدرة على تشكيل دروع حماية للمنتدى لإعلان الحقائق بلا خوف ووجل، وإيصالها إلى أعلى المستويات.

ولئلا نبقى في العموميات، أشارككم واقعةً توضح ما أقول. فيوم تأسيس "أفد" عام 2006، أعلنت المنظمة أنها ستُصدر تقريراً سنوياً مستقلاً عن البيئة العربية، بدءاً من 2008. وبعد شهور، أعلن تجمُّع لمنظمات إقليمية ودولية العزم على إصدار تقرير في الموضوع نفسه. صدر تقرير "أفد" المستقلّ في موعده المحدد بعنوان "البيئة العربية: تحديات المستقبل"، بمشاركة كبار العلماء والباحثين العرب في مجالات البيئة والتنمية، وإشراف لجنة رفيعة المستوى مختصّة بالعلم والسياسات، وكان عدنان بدران من أعضائها الفاعلين. التقرير وضع الحقائق بلا مساحيق تجميلية، واقترح حلولاً واقعية. تمَّ عرضُ التقرير ومناقشتُه في مؤتمر دولي عُقد في البحرين، وأصبح المرجعَ الأهم لوضع البيئة العربية. بعد شهور، قدَّم تجمُّع المنظمات الإقليمية والدولية تقريره الموعود، مع ملاحظة في بدايته تقول إنه "لا يمثّل وجهة نظر المنظمات التي أصدرته أو الدول الأعضاء"، وهذا تقليد في تقارير الهيئات الدولية، لرفع المسؤولية عن الحكومات. لكن الطريف الجملة الثانية في الملاحظة، التي تُشير إلى أن التقرير"لا يمثّل المؤلفين". والواقع أنه بعد دورانها على 22 دولة ومنظمات إقليمية ودولية عدة للأخذ بملاحظاتها، وذلك لغايات سياسية بعيدة عن العِلم، تصبح التقارير "الرسمية" رمادية لا تمثّل احداً، حتى مؤلِّفيها. أما تقارير "أفد" الصريحة التي وضع الدكتور بدران إسمه عليها، فهي تمثّله كما تمثّل المؤلفين والمنتدى. ولولا "الحماية" السياسية التي وفَّرها الدكتور بدران ورفاقُه، إلى جانب المصداقية العلمية، لما تمكّن "أفد" من نشر تقاريره الصادقة والصريحة.

حدَّد المنتدى العربي للبيئة والتنمية مهمته بدعم السياسات والبرامج البيئية الضرورية لتنمية العالم العربي إستناداً إلى العِلم والتوعية. وهو يضمّ في عضويته منظمات من المجتمع المدني وشركات من القطاع الخاص والجامعات ومراكز الأبحاث، إلى جانب هيئات حكومية بصفة أعضاء مراقبين، بينما العادة أن تكون عضوية الهيئات الحكومية كاملة والباقون مراقبين. وكان لعدنان بدران دور كبير في تطوير هذا النموذج، الذي مكَّن المنتدى من إصدار تقارير مستقلة لا تخضع لضغوط، وإطلاق حوارات مفتوحة في اجتماعاته ومؤتمراته، يتحدث فيها الجميع بكل حرية، بمن فيهم الوزراء والمسؤولون الحكوميون، كمراقبين لا يحتاجون إلى إذن رسمي من الحكومات.

التقارير السنوية عن وضع البيئة العربية هي المنتج الرئيسي للمنتدى، وقد ساهم عدنان بدران فيها جميعاً كمشرف أو مؤلف أو محرر مشارِك. عمل على هذه التقارير العلمية المستقلة مئات الباحثين العرب، وأصبحت المرجع الأساسي حول البيئة العربية، وكان لها أثر كبير في خطط وبرامج التنمية المستدامة التي اعتمدتها الحكومات خلال السنوات الأخيرة. ويندر أن تخلو خطة إنمائية عربية حديثة من أجزاء أو أفكار مأخوذة من تقارير "أفد"، التي أدخلت مفاهيم لم تكن مطروحة سابقاً في المنطقة.

كثيرة هي المواضيع التي بحثتها تقارير "أفد" وساهم دولة الرئيس عدنان بدران في توفير الحماية السياسية لها، عن قناعة كاملة. وقد يكون في طليعتها التقرير عن أثر تغيُّر المناخ على البلدان العربية عام 2009، الذي اعتبره البعض مؤامرة على الدول النفطية لأنه يدعو إلى خفض الانبعاثات الكربونية. والتقرير عن "الاقتصاد الأخضر في عالم عربي متغيّر"، الذي وصفه "الحرس القديم" بأنه محاولة لادخال قضية التغيُّر المناخي تحت مسمى آخر، يقود في النهاية إلى الإضرار بمصالح الدول النفطية. وتقرير المياه، الذي أطلق دعوة صريحة إلى تسعير عادل للمياه كوسيلة للترشيد، مما اعتبره البعض مناقضاً لتعاليم دينية. أما التقرير عن البصمة البيئية للدول العربية، الذي دعا إلى ضبط الاستهلاك ووضع حدّ لاستنزاف الموارد بما يتناسب مع قدرة الطبيعة على التجدد، فقد اعتبرته بعض الأوساط مناقضاً لبرامج التنمية. ووجد "الحرس القديم" الدعوة إلى اعتماد مزيج متوازن للطاقة، على طريق التحوُّل إلى المصادر النظيفة والمتجددة، التي جاءت في تقرير "أفد" عن "الطاقة المستدامة"، مؤامرة أخرى على الدول النفطية. في كل هذه التحديات، كان عدنان بدران في خط الدفاع الأول عن خيارات "أفد". وهو لم يكتفِ بنُصح الآخرين وإرشادهم، بل كان القدوة في التغيير العملي، إذ حوَّل الأفكار إلى انجازات. ولا أملك الكلمات لوصف سعادته حين رافقني قبل سنوات في جولة على سطوح جامعة البتراء، التي حوَّلها إلى مساحات لإنتاج الكهرباء من الشمس، تكفي احتياجات الجامعة وتفيض عنها. أو حين شرح بشغف عمل محطة معالجة مياه الصرف في الجامعة لاستخدامها في الري، ما جعل من حرم البتراء غابات خضراء.

لقد أظهرت السنون كم كان عدنان بدران على صواب، إذ تحوّلت معظم القضايا التي دعمها في "أفد" وكانت موضِع اعتراض سابقاً، إلى سياسات حكومية. ويعود هذا إلى الإصرار على قول الحقيقة بلا مواربة أو استرضاءً لأحد.

شكراً لك دولة الرئيس، لأن المنتدى العربي للبيئة والتنمية ما كان ليحظى بهذا الموقع والتأثير لولا حكمتك وعلمك ونزاهتك وتواضعك، وتسخير قامتك السياسية لخدمة التنمية والبيئة، كما سخَّرتَها لخدمة التربية والعلم.


كلمة نجيب صعب في الحفل التكريمي الذي أقامته مؤسسة شومان في 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2025 في عمّان، تكريماً للدكتور عدنان بدران.

 

عودة
افلام الصور اخبار و مقابلات