نجيب صعب
11/12/2019
حفلت الأشهر الأخيرة بتقارير جديدة تنذر بعواقب وخيمة لتغيّر المناخ، أكبر وأسرع مما كان متوقّعاً. وأطلقت الأمم المتحدة تحذيرات غير مسبوقة حول الموضوع، في قمم واجتماعات وبيانات وخطب نارية: الصيف الماضي كان الأكثر حرارة في التاريخ، الجليد القطبي يذوب بوتيرة متسارعة تفوق أي تشخيص سابق، الأعاصير والفيضانات الكبرى التي كانت تحصل كل مئة سنة ستتكرّر كل سنة ابتداءً من 2050، البحار سترتفع إلى مستويات خطيرة قبل نهاية هذا القرن مما يهدد مئات الملايين في المناطق الساحلية المنخفضة. لم تعد القضية قصة من الخيال العلمي، بل أصبحت خطراً أكيداً يهدّد مستقبل أجيال اليوم وليس الغد فقط.
الحقائق العلمية ثابتة، ونيّات الأمين العام للأمم المتحدة صادقة. لكن مطالبة دول العالم بالتزام إجراءات، عاجلة ومكلفة، للحدّ من تغيّر المناخ ومعالجة آثاره الكارثية، تقتضي مشاركة الجميع. وأذكر هنا شعار الحملة التي أطلقتها مجلة "البيئة والتنمية" عند انطلاقها عام 1996: "البيئة الأفضل تبدأ بك أنت". ولكي يحقّ لنا مطالبة الآخرين بتقديم التضحيات، علينا أن نبدأ بأنفسنا. فهل تفعل الأمم المتحدة ما يكفي لتخفيض بصمتها البيئية؟
قبل سنة، أُثيرت ضجّة حول أسفار المدير التنفيذي السابق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، إريك سولهايم، بعدما تبيّن أنه سافر 529 يوماً من أصل 668 يوماً أمضاها في وظيفته، وذلك بكلفة نصف مليون دولار. وبنتيجة التقرير، أُجبر سولهايم على الاستقالة. تقرير المراقبين اقتصر على ما اعتُبر مخالفات في أذونات السفر، وبعض الرحلات الخاصة التي لم يتم التصريح عنها، والوقت الطويل الذي أمضاه المدير التنفيذي خارج مقر المنظمة. لكنه لم يتطرّق إلى الموضوع الأهم، وهو حجم الانبعاثات الكربونية من هذه الأسفار وأثرها على البيئة.
ليس غريباً أن يسافر رئيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة من مقرّه في نيروبي إلى جميع أنحاء العالم، لمتابعة العمل مع الحكومات ومكاتب البرنامج الدولي المنتشرة في القارات الخمس. قد تكون أسفار سولهايم زادت عن الحدود المعقولة، إذ وصلت إلى 80 في المئة من أيام السنة. لكن كان من الأجدى البحث عن أساليب السفر في هيئات الأمم المتحدة عامّةً، وأثرها على البيئة. فليس إيريك سولهايم وحيداً في هذا، مع أنه كان الضحية.
يعمل في الأمانة العامة للأمم المتحدة وبرامجها ومنظماتها نحو مئة ألف موظف، تنطبق عليهم أنظمة خاصة للسفر. فإذا تجاوز وقت الرحلة 9 ساعات، يحق للموظف، من أيّ رتبة، السفر في درجة رجال الأعمال. أما من يحملون درجة الأمين العام المساعد ووكيل الأمين العام ونائب الأمين العام والأمين العام، وعددهم بالمئات، فيحق لهم السفر في درجة رجال الأعمال مهما كان وقت الرحلة. وحين تمت إعادة النظر في هذا التدبير منذ سنوات، في وقت عانت الأمم المتحدة ضائقة مالية، تم إسقاط حق السفر في درجة رجال الأعمال عن الخبراء والمستشارين، مهما كان وقت الرحلة، وأُبقي عليه لموظفي الأمم المتحدة، مهما كانت رتبتهم. وأخبرني مستشار دولي مرموق، وهو مدير سابق لإحدى هيئات الأمم المتحدة، أنه دُعي إلى الحديث في اجتماع دولي عُقد في الصين، فالتزم بالنظام وسافر في الدرجة السياحيّة، ليفاجَأ على الطائرة نفسها بموظفين بمراتب دنيا في المنظمة صاحبة الدعوة، عملوا تحت إدارته سابقاً، يسافرون في درجة رجال الأعمال.
هل تستحق المسألة كل هذا الكلام؟ بالتأكيد، حين نعلم الفارق في الانبعاثات الكربونية والأثر البيئي بين درجات السفر المختلفة. فبسبب التفاوت في المساحة التي تحتلها المقاعد، والتي تحدد عدد المسافرين في مقصورة الطائرة، فإن السفر في درجة رجال الأعمال يتسبب بثلاثة أضعاف انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون مقارنة بالدرجة السياحية، بينما يصل الفارق في الدرجة الأولى إلى خمسة أضعاف.
حتى وقت قريب، تم إبقاء هذا الموضوع خارج البحث، باعتباره من الامتيازات والمكتسبات التي لا يجوز المسّ بها. لكن الوضع بدأ يتغيّر، حين أرسل نحو 2000 من موظفي الأمم المتحدة رسالة إلى الأمين العام طالبوا فيها بتغييرات جذرية في المنظمة لترتيب بيتها الخاص. وفي طليعة هذا خفض إنتاجها من الانبعاثات الكربونية، عبر الحدّ من الرحلات الرسمية وفرض قيود على الامتيازات الممنوحة، مثل السفر في درجة رجال الأعمال. وقال الموقّعون إن على الأمم المتحدة أن تثبت جدّيتها عندما تطالب بعمل عاجل من أجل التصدّي لتغيُّر المناخ، وذلك بألّا تقلّ التزاماتها عما تطالب به الدول الأعضاء. وقد بلغت انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون الناجمة عن نشاطات الأمم المتحدة مليوني طن عام 2018، أي ما يتجاوز الانبعاثات من بعض الدول، مثل مالطا وليبيريا.
المطلوب من الأمانة العامة الاستماع إلى هؤلاء الموظفين الشجعان، واتخاذ إجراءات سريعة تكسر إطار الامتيازات والمكتسبات. وإلى أن يحصل هذا، لن يكون منطقيّاً أن نلوم الدول التي لا تأخذ تحذيرات الأمم المتحدة على محمل الجد.
|