نجيب صعب، 14/10/2019
الخوف على الطبيعة من التدمير، بما يحمله من تأثير على حياة البشر وصحتهم، يجمع الناس عبر القارات. فالأخطار لا تستثني أحداً فوق هذا الكوكب.
مهدي بدير طبيب جرّاح شهير من أصل لبناني، يقيم في ولاية تينيسي الأميركية. قرأ مقالاً نُشر أخيراً في "الشرق الأوسط" بعنوان "ماذا صنعْتَ بالذهب، ماذا فعلْتَ بالوردة"، يتحدث عن التدمير المنهجي للطبيعة، الذي يؤدي إلى فقدان التوازن بين عناصرها، متسبباً بهدر الموارد وانتشار الأمراض.
كان المقال حافزاً للدكتور بدير على المشاركة بتجربته، فكتب معلّقاً: "للأسف، العالم في معظمه لا يهتم بالبيئة. كميات البلاستيك التي نرميها في البحار والغابات هائلة. لو تعلمون ما هي الكميات التي ترميها المستشفيات يومياً بلا معالجة في المطامر وسط الطبيعة، لأُصبتم بالصدمة". وتابع: "أنا أتولّى يومياً، بمساعدة طلاب الطب، جمع فضلات البلاستيك بعد العمليات الجراحية، ثم نأخذها إلى مراكز التدوير في سياراتنا الخاصة. لكن معظم الجرّاحين لا يهتمون بذلك، وتذهب معظم الفضلات مباشرة إلى الطبيعة. كذلك أجمع مع طلابي قناني البلاستيك وعلب الكرتون والمشروبات الغازية الفارغة، ونأخذها إلى معامل التدوير. لكن هذا مجهود فردي، ومعظم المستشفيات الأميركية لا تهتم بالأمر إذا لم تكن هناك حوافز وروادع. فرمي البلاستيك وبقية الفضلات في الطبيعة يبقى الأرخص".
ولاحظ الدكتور بدير أن البلدان الغربية تهتم بنظافة شوارعها أكثر من معظم البلدان العربية. لكن النتيجة، في رأيه، واحدة. فغالباً ما يعمد العرب إلى رمي القمامة في الشوارع، من نوافذ بيوتهم وسياراتهم، إذ إن همهم يكاد يكون محصوراً في المحافظة على نظافة غرف الجلوس حيث يستقبلون الضيوف. أما الطرقات والأماكن العامة، فهي خارج اهتماماتهم. الغربيون، في المقابل، يحافظون على نظافة الأماكن العامة، لكنهم لا يخففون من الاستهلاك، بل يتركون لشركات جمع القمامة الاهتمام بفضلاتهم، التي يرمونها في المستوعبات، والشركات التي تجمعها ترميها في المطامر وسط الطبيعة. وليس من فارق بين أن تتحلل في الشارع أو المطمر لأنها، في كلتا الحالين، تنتهي في الطبيعة. ويعلّق الدكتور بدير بحزن أن بعض الناس في الولايات المتحدة يعتبرون الأنماط الاستهلاكية المتوحشة جزءاً من الحريات الشخصية التي لا يمكن المسّ بها. وكمثل على ذلك، فقد استخدم مؤيّدو الرئيس دونالد ترامب، في احتفالات إعادة الانتخاب، أكواباً ومصّاصات بلاستيكية وضعوا عليها اسمه، رافضين الاستعاضة عنها بأخرى مصنوعة من ورق وكرتون، وذلك للتعبير عن عدم قناعتهم بأضرار البلاستيك البيئية، وتمسكاً بما يعتبرونه حرية شخصية.
أرفق مهدي بدير كلامه بصورة لكومة من نفايات البلاستيك والكرتون، تقارب حجم سيّارة متوسّطة، قال إنه جمعها من عمليات جراحية أجراها هو شخصياً في يوم واحد. وعلّق: "تخيّلوا كم عملية جراحية تحصل يومياً في العالم، وتخيّلوا كمية الفضلات التي يتم رميها فقط من المستشفيات. فماذا عن تلك التي تُرمى من المحلّات التجارية والمنازل والمكاتب والطائرات والبواخر؟"
يشكّل البلاستيك نحو 10 في المائة من النفايات في البلدان العربية. وإذا كان المجموع اليوم يقدَّر بنحو 200 مليون طن سنوياً في المنطقة، فهذا يعني أن هناك 20 مليون طن من البلاستيك يذهب معظمه إلى الطبيعة، ويتطلب تحلّله مئات السنين. والخطر الأعظم يتمثل في الأكياس والعبوات التي تُستخدم مرّة واحدة، ثم تنتهي في مكبّات النفايات.
بعض الدول تعتمد فقط على حملات التوعية للحدّ من انتشار البلاستيك ذي الاستخدام الواحد. لكن التجربة أثبتت أن التوعية وحدها لا تكفي ما لم تترافق مع تدابير قانونية وضريبية، بحيث تشكّل الرادع والحافز. وقف استعمال أكياس البلاستيك في المغرب، مثلاً، حصل نتيجة قانون صارم يمنع تصنيعه واستيراده وتوزيعه واستعماله. وتَرافق هذا مع توفير بدائل لأكياس مصنوعة من نسيج ورقي. الغرامات والعقوبات أدّت إلى وقف استخدام أكياس البلاستيك على نحو شبه كامل، وهذا ما لم تحققه برامج التوعية التي تم تجريبها سابقاً.
وكانت وزارة البيئة اللبنانية قد أعلنت مؤخراً عن خطوة في هذا الاتجاه، تتمثل في فرض سعر متواضع لكل كيس بلاستيك يستخدمه المستهلك لجمع مشترياته من المحلات التجارية. لكن الوزارة قد تكتشف سريعاً أن هذا التدبير لا يحل المشكلة، ويبقي الباب مفتوحاً للمخالفات في حال لم يتم المنع الكامل لأكياس البلاستيك، تصنيعاً واستيراداً وتوزيعاً واستخداماً. وليس ما يمنع تحقيق هذا، إذ إن البدائل موجودة.
ويلاحَظ أن معظم منتجي اللبن والحليب في البلدان العربية يوزعونه في عبوات بلاستيكية، لأنها أرخص قليلاً من العبوات الكرتونية القابلة للتدوير، مع أن المصانع التي تنتجها موجودة في كثير من بلدان المنطقة. والحل الناجع يكمن في فرض قوانين وضرائب وغرامات، إلى جانب توفير الحوافز المالية للبدائل الأفضل بيئياً. وأصبحت فرنسا مؤخّراً أول بلد في العالم يمنع بالكامل أدوات الطعام البلاستيكية، من أكواب وصحون وفناجين وغيرها.
تشكّل عبوات المياه والمشروبات الغازية ذات الاستعمال الواحد الحجم الأكبر للنفايات البلاستيكية في البلدان العربية. وإذا كان لا يمكن، بالتأكيد، منع الناس من شرب المياه في منطقة شديدة الحرارة، فمن الممكن، طبعاً، منع استعمال العبوات البلاستيكية الرقيقة، وإبدالها بعبوات من الزجاج أو البلاستيك الصلب، الصالحة للاسترجاع وإعادة الاستخدام. لكن نجاح هذا البرنامج يتطلّب فرض سعر مرتفع للعبوة الفارغة، لدفع المستهلك إلى إرجاعها عند شرائه أخرى جديدة.
ما لم يتم تطبيق مبدأ "الملوث يدفع"، سيبقى الحديث عن رعاية البيئة وحماية الطبيعة مجرد تمنيات.
|