ملخص تنفيذي
تمويل التنمية المستدامة في البلدان العربية
التقرير السنوي للمنتدى العربي للبيئة والتنمية 2018
نجيب صعب، 8/11/2018
شكّل اعتماد أهداف التنمية المستدامة (SDGs) واتفاق باريس بشأن تغير المناخ في عام 2015 لحظة حاسمة في مسار التعاون الدولي. فكلاهما ينطوي على تغييرات جذرية في النظرة إلى التنمية ومتطلبات تحقيق غاياتها.
اتفق قادة العالم على 17 هدفاً في أجندة 2030، تجسّد نهجاً متكاملاً للتنمية. وتضمنت الأهداف تعهدات قوية ومحددة، مصممة لصون كرامة الإنسان وتحسين نوعية الحياة، مع حماية البيئة وتأمين النمو الاقتصادي المستدام. أما اتفاقية باريس، فنصت للمرة الأولى على أهداف محددة لخفض انبعاثات الكربون التي تساهم في تغير المناخ، بما في ذلك التحول إلى الطاقة المتجددة وكفاءة استخدام الطاقة وتعديل أنماط الاستهلاك. وحددت الاتفاقية مواعيد لمراجعة التقدم في التنفيذ، وصولاً إلى سنة 2050. وعلى الرغم من أن لاتفاقية المناخ آليات تمويل خاصة بها، فإن التنفيذ غالباً ما يتشابك مع أهداف التنمية المستدامة.
ويمثل التغيّر المناخي تهديداً كبيراً للبلدان العربية، التي تقع في منطقة هي من الأكثر تأثّراً بنتائجه، يتجلى على وجه الخصوص في ارتفاع مستويات البحار وندرة المياه العذبة، وانعكاسات هذه على الإنتاج الغذائي. كما أن للعرب مصلحة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، خاصة تلك التي تساعد في مواجهة التحديات المترابطة بين المياه والطاقة والغذاء، إلى جانب تحديات التنمية الاجتماعية والبشرية عامة.
تستدعي متطلبات الالتزام باتفاقية باريس المناخية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة استثمارات ضخمة، تحتاج بدورها إلى آليات تمويل مبتكرة. ونظراً إلى أن الحكومات وحدها لا تستطيع تلبية كل الاحتياجات، فإن منظمات العون وصناديق التنمية والشركات والقطاع المصرفي مدعوة بشكل متزايد إلى المساهمة.
لقد تم تقدير الاحتياجات لتلبية أهداف التنمية المستدامة في جميع أنحاء العالم بمبلغ يتراوح ما بين 5 إلى 7 تريليون دولار كل عام حتى سنة 2030. وفي البلدان النامية وحدها، يقدّر العجز، أو الفجوة الاستثمارية، بمبلغ 2.5 تريليون دولار في السنة. وتحتاج المنطقة العربية إلى أكثر من 230 بليون دولار أميركي سنوياً مخصصة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. أما الفجوة التمويلية في الدول العربية التي تعاني العجز فقُدِّرت بأكثر من 100 بليون دولار سنوياً، مع مجموع تراكمي بمقدار 1.5 تريليون دولار حتى عام 2030. وتجدر الإشارة إلى أن التمويل المطلوب ليس كله مبالغ إضافية جديدة، إذ إن قسماً كبيراً منه يأتي من تحويل جزء من الالتزامات المالية التقليدية في الموازانات الحالية إلى مشاريع تدعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة. لكن من المتوقع أن ترتفع الكلفة أكثر، نظراً إلى آثار عدم الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة على تنفيذ أهداف التنمية المستدامة. وفي هذا المجال، تشير التقديرات إلى أن الخسائر في النشاط الاقتصادي بسبب الحروب والصراعات في المنطقة منذ عام 2011 قد تجاوزت 900 بليون دولار.
تشهد مصادر التمويل العامة والخاصة في المنطقة العربية انحساراً، وهي ليست على مستوى التريليونات اللازمة لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة. ويتفاقم الوضع بسبب الضغط السياسي المتزايد على حركة المساعدات ونقل الموارد من البلدان المتقدمة إلى البلدان النامية. ففي المنطقة نفسها، يحكم التباين فرص التمويل والتحديات بين البلدان المختلفة: بالنسبة إلى البلدان الغنية بالنفط، لا يزال التمويل من خلال عائدات النفط متقلّباً وغير قابل للتنبؤ. أما ميزانيات البلدان المتوسطة الدخل، والتي تعتمد إلى حد كبير على إيرادات الضرائب، فإنها تخضع لضغط شديد، إذ إن نسبة الضريبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في معظم البلدان منخفضة، في حين أن الأولويات الإنمائية في ما يتعلق بالحفاظ على الطبقة الوسطى والحدّ من الفقر والعدالة الاجتماعية هي اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. أما البلدان ذات الدخل المنخفض فهي تواجه تحديات إنمائية ضخمة، نظراً إلى أنها أخفقت في تحقيق معظم الأهداف الإنمائية للألفية. كما تواجه البلدان المتأثرة بالصراعات تحديات إعادة البناء، ناهيك عن تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ووفق اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، فمن العقبات الرئيسية التي تحول دون تمويل التنمية المستدامة أن المنطقة العربية مصدّرٌ صافٍ لرأس المال. ففي مقابل كل دولار يدخل المنطقة من خلال تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI)، يتم إعادة استثمار نحو 1.8 دولار فعلياً في الخارج، إما بواسطة تدفقات الاستثمار المباشر إلى الخارج، أو من خلال تحويل الأرباح التي يحققها المستثمرون الأجانب. وفي الوقت نفسه، تظل المنطقة مقرضة للبنوك الدولية الموجودة في الخارج، حيث كانت ودائع العملاء العرب لدى البنوك الدولية الرئيسية أعلى باستمرار من القروض المقابلة للعملاء العرب من هذه البنوك. ولا تزال تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى المنطقة العربية متقلبة، وهي تتركز في عدد قليل من البلدان والقطاعات المختارة، التي تتعلق أساساً بصناعة النفط، مع تدفقات لا تذكر إلى البلدان المنخفضة الدخل.
تُعتبر المنطقة العربية مصدّراً صافياً للتحويلات. فهي مصدَرٌ ووجهةٌ لتحويلات المهاجرين في آنٍ معاً. بين عامي 2011 و2016، وفي مقابل كل دولار تم تحويله إلى المنطقة العربية، أعادت المنطقة في المتوسط 2.8 دولارات إلى مناطق أخرى. وتؤدي الكلفة المرتفعة لإعادة التحويلات إلى الوطن من وداخل المنطقة العربية إلى حدوث تسريبات كبيرة في التمويل الإنمائي.
إن تريليونات الدولارات اللازمة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في الدول العربية تحتاج إلى تعبئة جميع أدوات التمويل. وإلى جانب العائدات المالية المحلية، تشمل مصادر التمويل المساعدات الإنمائية الرسمية الدولية والعربية والتمويل الخاص. ويحتاج تأمين آلاف بلايين الدولارات التي يتطلبها تحقيق أهداف التنمية المستدامة في الدول العربية إلى استقطاب أدوات متنوعة للتمويل. فالمطلوب، على الصعيد المحلي الحكومي، الاستثمار في أولويات مثل تطوير الموارد البشرية والطبيعية، وتعديل أنظمة دعم الأسعار كأداة لإدارة الموارد الطبيعية بكفاءة، خاصة الطاقة والمياه، وتطوير أنظمة الضرائب لتعزيز مصادر الدخل مع تأمين توزيع عادل للثروة، وتصميم سياسات تجارية تؤدي إلى زيادة الإنتاج وبالتالي زيادة الدخل من تصدير البضائع والخدمات.
ويأتي إصلاح السياسات المالية في رأس التدابير المطلوبة للتأثير في تحويل الأنماط الاستهلاكية والإنتاجية نحو مسار أكثر استدامة، مع الاستمرار في تحقيق الدخل. وهذا يتضمن إصلاح النظام الضريبي وإعطاء حوافز وتسهيلات لتشجيع استخدام الموارد بكفاءة وتوزيع الثروة على نحو عادل. كما لا بد من تصميم سياسات تجارية تدعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ولما كانت المصادر المحلية غير كافية، في معظم الحالات، كان لا بد من استقطاب مصادر تمويل خارجية أيضاً، بما فيها مساعدات التنمية الرسمية من الدول (ODA)، والاستثمارات الخارجية المباشرة (FDI). كما توفر مؤسسات التنمية الإقليمية والدولية والأمم المتحدة والصناديق الخاصة بالمعاهدات الدولية، مثل المناخ والأوزون، مصدراً إضافياً للتمويل. وفي هذا التقرير عرض مفصّل لبعض هذه المصادر، ومنها مجموعة البنك الدولي وصندوق الأوبك للتنمية الدولية ومرفق البيئة العالمي والبنك الأوروبي للتعمير والتنمية والبنك الإسلامي للتنمية. كما يتضمن التقرير شرحاً لنشاطات الصندوق المتعدد الأطراف لبروتوكول مونتريال حول الأوزون، الذي يمثل تجربة ناجحة في التعاون التمويلي الدولي لتحقيق هدف مشترك.
إلى ذلك، ينبغي التأكيد على أنه بصرف النظر عن تأمين موارد مالية إضافية، ينبغي أن ينصبّ التركيز على تعبئة وإعادة توجيه الموارد المالية المحلية القائمة، العامة منها والخاصة، من أجل دعم أنشطة التنمية المستدامة. ثم إن تماسك السياسات وتنسيقها سيقطعان شوطاً طويلاً نحو تحقيق هذا الهدف، إذ لا معنى اقتصادياً للتمسك بخيارات الاستثمار التقليدية، في حين أن الهدف توجيه الأموال لدعم الاستثمارات المستدامة الجديدة والمبتكرة، الصديقة للبيئة.
المساعدات الإنمائية
تلعب الدول العربية المانحة للمساعدات ومؤسساتها الإنمائية الوطنية والإقليمية دوراً نشطاً في التعاون الإنمائي، كتعبير عن التضامن مع الدول النامية الأخرى. فقد بلغ حجم المساعدات الإنمائية العربية الرسمية الثنائية 216 بليون دولار بين 1970 و2016، قدّم الجزء الأكبر منها أربعة بلدان هي السعودية والكويت والإمارات وقطر. وكانت مساهمة تلك البلدان في المساعدة الإنمائية أكثر من 1 في المئة من إجمالي دخلها القومي، وهو ما يتجاوز هدف الأمم المتحدة البالغ 0.7 في المئة. في عام 2016، بلغ إجمالي المساعدات الثنائية المقدمة من الدول العربية 13.54 بليون دولار، ذهب ثلثها إلى دول عربية أخرى. وقد قدمت صناديق التنمية العربية ما مجموعه 204 بليون دولار حتى نهاية 2017، ذهب 54 في المئة منها إلى الدول العربية.
بلغ مجموع المساعدات الإنمائية الرسمية (ODA) حول العالم 146 بليون دولار في 2017، وهذا يبقى جزءاً صغيراً من مجمل متطلبات التنمية. وتُظهر الأرقام أن إجمالي المساعدات الإنمائية الرسمية المقدمة إلى البلدان العربية من مصادر خارجها ازدادت باطراد منذ عام 2011، في أعقاب الانخفاض الحاد بين 2008-2010. وقد أدى ذلك إلى زيادة إجمالي المساعدات الإنمائية الرسمية المقدمة إلى البلدان العربية في عام 2016 إلى 22.3 بليون دولار، ليصل إلى حده الأقصى خلال عقد من الزمن، وهو ما يمثل جزءاً كبيراً من الإجمالي العالمي. ومع ذلك، فإن هذه الزيادة الرقمية تخفي حقيقة أن ما يصل إلى 15 في المئة كان مخصصاً لمساعدة اللاجئين والمعونات الإنسانية، والتي هي في الواقع ليست جزءاً من برامج التنمية. فقد زادت اﻟﻤﺴﺎعدات اﻹﻧﻤﺎﺋﻴﺔ اﻟرﺳﻤﻴﺔ إلى سورية بشكل كبير منذ ﻋﺎم 2012، لكن نحو 90 ﻓﻲ اﻟﻤﺋﺔ ﻣﻨﻬﺎ كانت مساعدات إنسانية. ومن بين أقل البلدان نمواً، حصل الصومال واليمن على مقدار أكبر من تدفق المساعدة الإنمائية الرسمية في السنوات الخمس الماضية، كان جزء كبير منها للمعونات الإنسانية. وانخفضت المساعدة الإنمائية الرسمية إلى السودان بشكل ملحوظ خلال العقد الماضي، فيما زادت المساعدة الإنمائية الرسمية المقدمة إلى البلدان المتوسطة الدخل في المنطقة، بما في ذلك مصر والأردن والمغرب وتونس، خلال السنوات الخمس الماضية. لكن تدفق المعونة ظل متقلباً وغير مستقر من سنة إلى أخرى. ويبقى عدم الاتساق في تدفق المساعدة الإنمائية الرسمية شاغلاً رئيسياً، بالإضافة إلى حقيقة أن البلدان المتقدمة بحاجة إلى الإبقاء على التزامها بنسبة 0.7 في المئة من الدخل القومي الإجمالي لتوزيعها كمساعدة إنمائية رسمية للبلدان النامية.
إضافةً إلى ذلك، فإن توزيع المساعدة الإنمائية الرسمية على المنطقة حسب القطاعات يبيّن أن حصة المساعدة الإنمائية الرسمية المقدمة للتعليم قد انخفضت، في حين أن حصة الصحة وإمدادات المياه والمرافق الصحية لا تزال مهملة بنسبة تراوح بين 2 و4 في المئة. كما انخفضت حصة المساعدة الإنمائية الرسمية المخصصة لقطاع الإنتاج على مر السنين أيضاً. هذه الاتجاهات مثيرة للقلق، ويمكن أن تعرقل تقدّم العديد من أهداف التنمية المستدامة في المنطقة، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك حاجة إلى موارد كبيرة في هذه القطاعات لتحسين الخدمات العامة ذات الجودة وتحسين وصولها إلى الفقراء، بهدف جعل المجتمعات أكثر عدالة واستدامة.
يعتبر التمويل المناسب، من حيث الكمية والنوعية، مورداً حيوياً لا غنى عنه لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة. وفي هذا الصدد، فإن مؤسسات التنمية العربية في وضع جيد يتيح لها تقديم الدعم لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة في البلدان العربية، في إطار الشراكة العالمية التي يركز عليها الهدف 17، وهي الخيط الذي ينسج جميع أهداف التنمية المستدامة معاً، لأنه يدعو إلى إحياء الشراكة العالمية من أجل التنمية المستدامة. لدى مؤسسات التنمية العربية القدرة على تعبئة موارد إضافية لتمويل أهداف التنمية المستدامة من خلال التمويل المشترك مع المصادر الأخرى لتمويل التنمية. ومع ذلك، ومن أجل تحسين تعبئة الموارد، تحتاج الدول العربية إلى الاعتراف الكامل بترابط وتعقيدات أهداف التنمية المستدامة، ووضع استراتيجيات وخطط متكاملة، مع تحديد أولويات واضحة ومتسلسلة لأهداف التنمية المستدامة على المستوى المحلي، وفقاً لجدول زمني محدد للتنفيذ، مدعوم بدراسات جدوى معدّة بشكل جيد ومصادر للتمويل. ويجب أن يقترن ذلك بالحكم السليم والإطار التنظيمي الملائم مما يخلق ثقة الجهات المانحة.
التمويل من القطاع الخاص
إن تعبئة القطاع الخاص أمر حاسم لدعم الاستثمار السنوي بتريليونات الدولارات المطلوب عالمياً لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة. والبلدان العربية ليست مختلفة، لأن جزءاً كبيراً من فجوة تمويل التنمية لا يمكن أن يأتي إلا من القطاع الخاص.
تقليدياً، سهلت أسواق رأس المال، والصناعة المصرفية والمالية بشكل عام، الأنشطة التي كان لها تأثير سلبي في السياق الاجتماعي والبيئي. ومع تزايد الأدلة على التأثير الضار لتغير المناخ، والتحديات الناشئة عن استنفاد الموارد، وتدهور البيئة والقضايا الإجتماعية، فقد بدأ التخلي سريعاً عن هذا النهج. وهذا ينطوي على آثار كبيرة على النظام المالي.
ولكن مع ذلك، يمكن تحويل فجوة التمويل إلى فرص عمل، تتمثل في خلق أعمال تجارية جديدة، وخفض تكلفة تنفيذ التأثيرات، وخلق منافع اقتصادية وبيئية واجتماعية للمجتمع المعني. هذه أرض خصبة لتحديد مجموعة جديدة من التفاعلات الاقتصادية القيّمة بين القطاعين العام والخاص. وقد كان برنامج الأمم المتحدة للبيئة رائداً في إدخال الاقتصاد الأخضر كبديل مستدام، يضمن النمو الاقتصادي، وفي الوقت نفسه يحمي الأصول الطبيعية والاجتماعية، التي تضمن كرامة الإنسان، وفي النهاية استمرارية النمو. ويرى برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن الانتقال العالمي نحو الاقتصاد الأخضر سيتطلب إعادة توجيه للاستثمار لزيادة المستوى الحالي لتدفقات القطاعين العام والخاص إلى المجالات الرئيسية ذات الأولوية، والتي يتعيّن تعبئة الجزء الأكبر منها من خلال الأسواق المالية. وقد شهدت السنوات الأخيرة بداية تحول في سلوك المستثمرين، الذين ينتقلون بشكل متزايد من الاستثمار القائم على نهج سلبي لا يسبب الضرر، إلى المفهوم المالي المستدام القائم على الاستثمار الفعّال في حلول لتحديات الاستدامة وفق الأجندة التي حددتها "أهداف التنمية المستدامة" الـ17.
من الجدير بالذكر أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى المنطقة العربية انخفضت إلى 32.4 بليون دولار في عام 2016، من 88.5 بليون دولار في عام 2008. ولا تزال تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى المنطقة متقلبة ومرتبطة بتقلبات أسعار النفط وعدم الاستقرار السياسي. ومع ذلك، فإن الأرباح التي يعيدها المستثمرون الأجانب إلى الخارج، والاستثمارات العربية المباشرة في الخارج، تؤدي إلى عدم توازن في التدفقات، مما يجعل المنطقة مصدّراً صافياً لرأس المال. ويتطلب عكس هذا الاتجاه وجود إطار تنظيمي يولّد الثقة القادرة على جذب المستثمرين وتعبئة المدخرات الخاصة نحو دعم النمو المستدام.
هناك مجموعة متزايدة من حلول التمويل المثيرة للاهتمام في السوق، من السندات الخضراء إلى أدوات التمويل المختلطة (blended). على الصعيد العالمي، حدثت زيادة سنوية بمقدار 14 ضعفاً في إصدار السندات الخضراء السنوية، من 11 بليون دولار في عام 2013، إلى أكثر من 155 بليون دولار في عام 2017. ولكن رغم نموها السريع، فإنها لا تزال بعيدة عن الكلفة السنوية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي تبلغ 2.5 تريليون دولار أميركي، وبالتأكيد بعيدة جداً عن سوق السندات العالمية المقدرة بحوالى 100 تريليون دولار. وعلى الرغم من أن السندات الخضراء في الدول العربية لا تزال في مهدها، إلا أنها بدأت في اكتساب الزخم. في عام 2013، أصدر بنك التنمية الافريقي سندات صديقة للبيئة استخدمت عائداتها جزئياً لتمويل مشروعين في تونس ومصر. وفي عام 2017، أطلق بنك أبو ظبي الوطني أول إصدار لسندات صديقة للبيئة في المنطقة العربية بقيمة 587 مليون دولار أميركي، تستحق في عام 2022. ويعَد التمويل المختلط شكلاً مبتكراً آخر لتمويل التنمية، وذلك بالاستفادة من المساعدة الإنمائية لاستقطاب تمويل إضافي من القطاع الخاص.
وإلى جانب السندات الخضراء، بدأت الدول العربية تتبنى أشكالاً أخرى من الآليات المبتكرة لتمويل التنمية، مثل التمويل المستند إلى النتائج (result - based financing)، الذي استخدمه البنك الدولي لدعم امتثال الصناعات المصرية للقوانين البيئية. وتم استخدام مقايضة الديون مقابل التنمية (debt-for-development swap) في مصر والمغرب والأردن واليمن. كما تم تبني سوق الكربون، الذي يحصل فيه تبادل علاوات انبعاثات الكربون عالمياً لتشجيع الدول والشركات على الحد من الانبعاثات، من قبل 6 دول عربية أشارت إلى وجود خطط وطنية لتخفيض سعر الكربون. لكن أنشطة تجارة الكربون العربية لم يتم إطلاقها فعلياً بعد. واستفادت خمسة مشاريع وطنية في مصر والمغرب من تمويل قدره 281 مليون دولار أميركي من صندوق المناخ الأخضر، المخصص للاستثمارات في المبادرات المرنة للمناخ. وكانت دول عربية أخرى جزءاً من مشروعين متعددي الدول حصلا على 634 مليون دولار من صندوق المناخ الأخضر أيضاً. وقد أظهرت الشراكة بين القطاعين العام والخاص أداءً ضعيفاً في المنطقة العربية، حيث بلغت مشاركة القطاع الخاص في البنية التحتية 113.5 بليون دولار فقط بين 1990-2014، وهو ما يمثل 5 في المئة فقط من الإجمالي العالمي البالغ 2.5 تريليون دولار خلال الفترة نفسها.
ويحمل استغلال إمكانات التمويل الإسلامي من خلال الصكوك (السندات المتوافقة مع الشريعة) فرصاً كبيرة لتمويل البنية التحتية، ومشاريع الطاقة النظيفة والمتجددة وتغير المناخ. مجال آخر هو تصميم المنتجات المالية التي تناسب المغتربين والتي يمكنها تسخير التحويلات في مزيد من الاستثمار الإنمائي.
السياسات والإطار التنظيمي
إن اعتماد سياسات متكاملة للتنمية المستدامة أمر ضروري لاستقطاب التمويل الكافي للأنشطة الكفيلة بتحقيق أهدافها. وينبغي دعم ذلك بمجموعة من التدابير التنظيمية والقائمة على "اقتصاد السوق" (market-based) لضمان أن تكون السياسات والخطط والبرامج المقترحة عادلة اقتصادياً واجتماعياً ومقبولة بيئياً. ولا يجوز للقوانين، التي ينبغي تطبيقها بالتساوي على الجميع، أن تقتصر على القيود والمثبطات فحسب، بل يجب أن توفر أيضاً حوافز لتشجيع الأنشطة والاستثمارات المستدامة. وعلاوة على ذلك، فإن اعتماد نهج شفاف وقابل للمساءلة وقائم على المشاركة هو مطلب ضروري لتحقيق هذه الغاية.
أحد التحديات التي تواجه العديد من الدول العربية هو التدفقات المالية غير المشروعة وغسيل الأموال وسرقة الأموال العامة وهدرها. وينبغي بذل الجهود للحد من هذه الممارسات والقضاء عليها في نهاية المطاف، بما في ذلك مكافحة التهرب الضريبي من جانب الشركات الوطنية والعابرة للحدود. يشير تقرير "أفد" إلى أن عائدات مكافحة الفساد في الدول العربية ستولد ما يصل إلى 100 بليون دولار أميركي سنوياً، وهو ما يكفي لسد معظم الفجوة المالية في الاستثمارات اللازمة لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة. ووفقاً لإعلان مؤتمر التمويل من أجل التنمية الذي عقد في أديس أبابا في تموز (يوليو) 2015، ينبغي تشجيع الدول العربية للتصديق على إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والانضمام إليها كوسيلة لكشف وردع ومنع الفساد والرشوة، واستعادة الأصول المسروقة إلى بلد المنشأ. وينبغي بذل الجهود لإدخال أطر تنظيمية تزيد الشفافية والمساءلة للشركات الخاصة والمؤسسات المالية، وكذلك القطاع العام.
وقد وضعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) مجموعة من السياسات لمساعدة الحكومات على جمع التمويل الخاص لدعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وهي تنص على ضرورة إزالة العقبات التي تواجه الاستثمارات الخاصة في التنمية، وتدعو إلى إعتماد نهج متكامل لتعزيز تماسك السياسات. في كثير من الأحيان يتم تقويض أهداف السياسات عندما يتعارض عمل الوزارات المختلفة، في حين أن جميع السياسات العامة، بما في ذلك تلك التي تشمل التجارة والاستثمار والضرائب والمنافسة والتنمية، تحتاج إلى المواءمة دعماً لتشجيع الاستثمار من أجل التنمية المستدامة. حتى أثناء التفكير في زيادة حجم التمويل من البلايين إلى التريليونات، يجب إيلاء اهتمام كبير لجودة الاستثمار المتولد. هذا هو السبب في أن الحكومات لها دور مهم في وضع سياسات عمالية واجتماعية وبيئية جيدة، وفي تعزيز سلوك الأعمال المسؤول. وهذا من شأنه أيضاً أن يضمن تنفيذ البرامج والمشاريع بمزيد من الفعالية، وبقدر أكبر من الشفافية والمساءلة.
تحضير القطاع المالي للمخاطر البيئية
للتحديات والمخاطر البيئية والمناخية انعكاسات مهمة على الاستقرار المالي. لا شك أن الإجراءات الفعالة لتخفيض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون المسببة للاحتباس الحراري ضرورية، لكن آثارها على الاقتصاد كبيرة. فالتحوّل نحو مصادر بديلة للطاقة إلى جانب الوقود الأحفوري في المستقبل سيشكل نهاية لبعض أنواع الاستثمارات ويؤثر على تقييم العديد من الأصول. ولما كانت قطاعات اقتصادية ضخمة تعتمد على الوقود الأحفوري، فالمضاعفات من التحوّل كبيرة، خصوصاً على الاقتصادات التي تعتمد بشكل أساسي على تصدير هذا النوع من الوقود، كما في الدول العربية النفطية. وفي حين يشكل التحول إلى أنواع بديلة من الطاقة خطراً على الاستقرار المالي، فمخاطر الامتناع عن التحوّل الاقتصادي لمواكبة المتغيرات تبقى أكبر كثيراً. ومن البوادر الإيجابية أن برامج طموحة لتنويع الاقتصاد بدأت في الدول العربية المصدّرة للبترول، تواكبها استثمارات ضخمة في الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة، كما يحصل في السعودية والإمارات.
وفي حين يغطي القطاع المصرفي جزءاً ضخماً من تمويل مشاريع التنمية، فإن جزءاً صغيراً جداً يمكن تصنيفه على أنه "تمويل أخضر". ويرى الاتحاد المصرفي الأوروبي أن عدم الوضوح في تحديد عناصر "التمويل الأخضر"، مثل "القروض الخضراء" و"الأصول الخضراء"، يشكل عائقاً أمام تصنيف هذه العناصر، وبالتالي تطوير فرص إضافية للتمويل الأخضر. هناك حاجة، إذاً، إلى وضع حدّ أدنى من القواعد للافصاح عن مكوّنات التمويل الأخضر، بما يسمح بإتاحة الموارد المالية للمشاريع الخضراء وتقويم الأصول، وتحليل أوضاع السوق والمخاطر، وتطوير منتجات مالية جديدة يمكن تقديمها على أسس خاصة للمقارنة مع منتجات أخرى. وإذا كان يتوجب على المصارف التخفيف من الأثر المباشر على البيئة الناتج من النشاطات والاستثمارات التي تقوم بها، لكن مساهمة المصارف الرئيسية في دعم التنمية المستدامة تكمن في توفير الدعم والحلول التمويلية للمشاريع والشركات الصديقة للبيئة.
وقد دعا اتحاد المصارف العربية، في اجتماع عقده في مصر في تموز (يوليو) 2018، إلى اعتماد إطار تنظيمي لتشجيع القطاع المالي العربي على المشاركة الفاعلة في تمويل مشاريع التنمية المستدامة. كما تعهّد المصرفيون العرب التحوُّل إلى أنظمة مصرفية خضراء، وإنشاء إدارات مستقلة مختصة بالتنمية المستدامة في نطاق كل مصرف، وبإدخال منتجات مالية خضراء ضمن لائحة الخدمات المصرفية.
على الهيئات التنظيمية والرقابية العمل مع المصارف لاعتماد أفضل الممارسات في إدارة المسائل المرتبطة بالبيئة. فما يزال تأمين تمويل طويل الأجل لمشاريع ذات طابع بيئي مقيّداً بشروط معقّدة وتحدّيات مضاعفة لتقييم المخاطر لفترة طويلة، أو فرض تقديم ضمانات مالية أعلى، مما يجعل المشاريع أقل جدوى من الناحية الاقتصادية والمالية. ويمكن معالجة بعض هذه العوائق باعتماد تدابير تنظيمية وسياسات موجّهة نحو إعطاء تسهيلات وحوافز للتمويل الطويل الأجل للمشاريع التي تقع في خانة تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
إن وضوح واستقرار الإطار التنظيمي والرقابي والسياسات المالية العامة عوامل ضرورية لتشجيع المصارف على اعتماد خطط بعيدة المدى وقواعد مستقرة لصنع القرار في ما يخص التمويل الأخضر. وهذا يستدعي أن تشارك المؤسسات العامة، المحلية والدولية، في تحمل مخاطر بعض أنواع التمويل مع المصارف التجارية ومصادر التمويل من القطاع الخاص. فبعض هذه المشاريع ضرورية لتحقيق أهداف التنمية، بينما قد لا تكون ذات جدوى تجارية بحتة. ولا بدّ من إعطاء حوافز، على شكل تسهيلات ضريبية وشروط تمويل مدعومة، جنباً إلى جنب مع الإلغاء التدريجي لتدابير الدعم المالي غير الملائمة لتحقيق التنمية القابلة للاستمرار. كما أن السياسات النقدية الملائمة ضرورية لتشجيع التمويل الأخضر، على شكل حوافز من البنوك الوطنية المركزية، مثل قبول بعض الأصول الخضراء كضمانات للقروض.
خلاصة وتوصيات
على البلدان العربية تهيئة الاستراتيجيات وخطط العمل الملائمة لتحقيق أجندة التنمية المستدامة لسنة 2030 ومواجهة تحديات التغيّر المناخي. وهذا يستدعي تحديد الأولويات وتقدير التكاليف المتوقعة وتحديد مصادر التمويل الممكنة في المدى القريب والمتوسط والبعيد. وفي ما خص الدول النفطية، يبقى تنويع الاقتصاد نحو قطاعات منتجة غير بترولية وإعادة النظر في أنظمة دعم الأسعار أمرين ضروريين لمواجهة آثار تقلبات الأسعار على الدخل وتحقيق نمو طويل الأمد.
أما الدول ذات الدخل المتوسط، فلا بد لها من تعديل الأنظمة الضريبية بحيث ترتفع نسبة الدخل من الضرائب مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، مع تأمين العدالة وفق شرائح الدخل والثروة. وهناك حاجة ملحّة إلى إصلاحات مالية لتشجيع الاستثمارات ذات البعد الاجتماعي، إلى جانب التدابير المالية القادرة على دعم تنويع الاقتصاد وإدارة الديون والاستقرار البعيد الأمد في النمو وتحصيل الإيرادات. والمطلوب أن تكون الإدارة الضريبية مبسطة وشفّافة لتجنّب التهرّب الضريبي والرشى التي يتسبب فيها عدم الوضوح. ومن أساسيات تحسين النظام المالي وضع حد للتدفق غير الشرعي للأموال، عن طريق تحسين الإدارة الضريبية والتعاون في المراقبة العابرة للحدود.
من ناحية أخرى، ينبغي احترام التعهدات الدولية حول تمويل التنمية، وعدم خلطها بالمساعدات الطارئة للاجئين. والمطلوب أيضاً تعزيز التعاون بين دول المنطقة العربية في جميع المجالات، بما فيها الاستثمارات الإقليمية في ما بينها وزيادة المساعدات الإنمائية العربية لتمويل المشاريع في المنطقة، خاصة في مجال البنى التحتية، التي تحتاج وحدها إلى 100 بليون دولار سنوياً وفقاً لتقديرات البنك الدولي.
أما التمويل من القطاع الخاص فيحتاج إلى جهود أكبر لاستقطابه في مشاريع التنمية المستدامة. ومن هذا تشجيع استثمار المدخّرات، خصوصاً عن طريق أدوات مالية تستطيع اجتذاب التحويلات، وتطوير الأسواق المالية، واستقطاب الاستثمارات الخارجية المباشرة عن طريق سياسات وحوافز تمنح الثقة للمستثمرين. وهذا يساهم في عكس اتجاه الاستثمارات الخاصة، العربية والأجنبية، إلى الأسواق العربية، ما يؤمّن زيادة معتبرة في الموارد المالية. وعلى الدول تطوير آليات تشجع التمويل المختلط، مثل الشراكات بين القطاعين الخاص والعام، واستخدام القروض من المؤسسات المانحة وصناديق التنمية كضمانات للحصول على قروض إضافية من القطاع الخاص. وهذا كله يزيد من فعالية التمويل وكفاءته.
ومن الضروري، في الوقت عينه، العمل على عكس الاتجاه الراهن في تدمير الموارد الطبيعية، واعتماد سياسات توقف الهدر وتخفف من البصمة البيئية، بما يضمن الاستمرار في تأمين خدمات الموارد الطبيعية المطلوبة للأجيال المقبلة ويكفي لتحقيق حاجات التنمية المستدامة. لكن خلق بيئة ملائمة للاستثمار وتوفير الثقة في خطط التنمية وآلياتها، تحت راية القانون والعدالة والاستقرار السياسي، شرطان ضروريان على طريق تحقيق أهداف التنمية المستدامة كما نصت عليها أجندة 2030.
لا شك أن الموارد الإضافية، من جميع المصادر الداخلية والإقليمية والدولية المتوافرة، ضرورية لتمكين البلدان العربية من تحقيق أهداف التنمية المستدامة والتصدي للتغيّر المناخي. لكن إلى جانب تأمين مصادر جديدة للتمويل، يجب التركيز على كفاءة استخدام الموارد المالية المتوافرة، من القطاعين العام والخاص، وتغيير وجهتها، حيث يلزم الأمر، وفق جدول أولويات، لدعم المشاريع والبرامج الكفيلة بتحقيق أهداف التنمية المستدامة. كما لا بد من القضاء على الفساد والهدر، ووضع سياسات متكاملة، واعتماد شروط صديقة للاستثمار. فليس من المنطق الاقتصادي السليم الاستمرار في خيارات الاستثمار التقليدية القديمة، في موازاة العمل على استقطاب الموارد المالية وتحويلها لدعم استثمارات مبتكرة صديقة للبيئة، تقوم على مفاهيم ومقاييس جديدة.
هذا التقرير يدعو إلى الاستثمار في تنمية يكون محورها الناس، تعزز دمج حقوق الانسان، بما في ذلك الحق في التنمية، ومبادئ المشاركة الشعبية الحقيقية والمساءلة والشفافية وعدم التمييز، في أجندة التنمية.
|